يحيى المتوكل.. من بؤس الطفولة إلى ثكنات النضال- أسرار مثيرة
مواكب الأحرار لا يضنيها تاريخ بعينه? أو تستوقفها محطات سقم مكفهرة.. فهي وحدها من يكتب أسفار التاريخ? وينتفض على الحقب العليلة? وتنتزع سرطانات الأوطان حتى وأن كلفها الأمر بذل العمر ثرى طاهرة لوجه الأرض الجديد? تستوقفنا اليوم لسكب العبرات في محراب “المتوكل” بعد أن عادت (خديجة السلامي) من غربتها مثقلة بـ(دموع سبأ) لتقرأ على مسامعنا ابتهالات مسيرة الكفاح? والنضال في موكب رجل مازال يحيا في الذاكرة? ويتربع الأفئدة.
لقد احتل يحيى المتوكل حيزا?ٍ كبيرا?ٍ من ذاكرة اليمن التاريخية? حتى بات قدوة الكثير من اليمنيين. وعلى هذا الأساس نجد أن الأستاذة خديجة السلامي– رئيسة المركز الاعلامي في سفارة اليمن بباريس? والمخرجة المشهورة- أفردت لسيرة حياته (رحمه الله) فصلا?ٍ كاملا?ٍ في كتابها الأخير (دموع سبأTears of Sheba ) الصادر باللغة الإنجليزية في ديسمبر 2003م.. ولربما لن نجد وقتا?ٍ أكثر من الذكرى السنوية الثامنة لوفاته? التي توافق يوم 13 يناير 2003م? استحقاقا?ٍ لسرد سيرة حياة المتوكل– كما روتها خديجة السلامي..
(( 1 ))
استهلت السلامي الأسفار من رحلها الأول قائلة:(ولد يحيى المتوكل في ربيع عام 1942م في مدينة نائية لا تتعدى منازلها الحجرية العتيقة المائة منزل. وتقع في واحدة من أكثر البقاع اليمنية وعورة? بمسافة 35 ميل شمال غرب صنعاء – إذا ما قطعنا المسافة بخط مستقيم.
فقد كانت قرية “شهارة” تتربع قمة جبل بارتفاع 8000 قدم? وكان أئمة اليمن يلوذون بأنفسهم فيها في كلا الإحتلالين العثمانيين لليمن جاعلين منها معاقلا?ٍ لتنظيم صفوف كفاحهم ضد الغزاة? حيث أن “شهارة” أ?ْعمرت معظم أجزائها على أيدي أسر من السادة الذين حضيوا بنصيب وافر من حكم اليمن عبر القرون? إذ? كان من المؤمل أن يجد الإمام ترحيبا?ٍ مؤازرا?ٍ من سكان “شهارة” في مناهضته للغزاة)
وتنقل –خديجة السلامي عن يحيى المتوكل – قوله:(أن أول إمام من أسرتي كان الإمام القاسم الملقب بالمنصور في القرن السادس عشر الميلادي الذي طرد الأتراك من اليمن هو وأبنائه? فصار إمسه – المتوكل على الله.
وكانت صفة –سيد- تضفي على يحيى بعض الامتيازات منذ طفولته – باستثناء أن يراوده الحلم ذات يوم- بأن يتبع أثر بني القاسم ليصبح إمام).
وتنقل خديجة عن يحيى قوله أيضا?ٍ:( لقد عشت في الطابق العلوي من بيت الأهل الحجري المؤلف من طابقين? والذي يشاطرنا إياه عدد من الأعمام? وأسرهم) ويضيف:(كان معظم أهالي شهاره يعملون في مناصب بالإدارات الحكومية بالمناطق الخارجية للبلد. وكان الكثير من أبناء القبائل الذين يقطنون حول القرية يتوجهون إلى صنعاء بحثا?ٍ عن فرص عمل في الحرس الإمامي الخاص? ولهذا فإن شهارة كانت –تقريبا?ٍ- تكاد تخلو من الذكور الذين هم في سن العمل- باستثناء أيام الإجازات عندما يعود الكثير منهم لزيارة أسرهم.
وكان الجامع الرئيسي في “شهارة” لا يتسع إلا? لعدد محدود من الطلاب الراغبين في إكمال دراساتهم لما بعد مدارس القرآن غير النظامية. إذ? كانت تلك المدارس تتعمق في تعليمها لتشمل على النحو العربي? والفقه الديني مما جعل إكمال الدراسة في المساجد يعني التأهل للعمل بالخدمات العامة.
درس أبي في المسجد? فأصبح قاضي في الحكومة (حاكم) بعد تخرجه ثم صار -لاحقا?ٍ- مسئولا?ٍ عن تحصيل الزكاة في منطقتنا? وكانت أمي من بني المتوكل – أيضا?ٍ- ومن بنات عمومة أبي? وقد توفيت وأنا لم أزل في الخامسة من عمري? وبعد ذلك بفترة وجيزة نقلت الحكومة والدي إلى قرية المحابشة).
وهنا تعلق خديجة السلامي على الحدث:(وكانت “المحابشة” تبعد عن شهارة مسافة رحلة 12 ساعة على ظهور الجمال? وهناك مكث يحيى? وأبوه لثماني سنوات? لكن يحيى كان دائم التردد على قريته الأصلية لزيارة أخوتة الستة? وزوجة أبيه الثانية? حيث أنه لم يكن له أخوات – رغم أنه لم يكن على وفاق معها).
وتضيف– متحدثة عن طفولته:( خلال طفولته وفي صبابته كان يحيى لا يتناول إلا? القليل من وجبات الطعام التي لا تتعدى أن تكون شيئا?ٍ من الفول المهروس? وقرص خبز يغتمس به)? ثم تنقل الكلام على لسان يحيى:_( كنا نأكل اللحم مرة في الأسبوع _ أي أيام الجمع- وأحيانا?ٍ عندما نحتفي بضيف? أو زواج? أو مناسبة دينية? ولم أتذوق فاكهة إلا? بعد أن بلغت سن الرابعة عشرة? ولا أي خضروات غير البصل الأخضر? والفجل الأبيض الطويل الذي كانت أمي? وكذلك زوجة أبي تخلطه مع الفول).
ثم تعود خديجة للسرد قائلة:(كان والد يحيى قد خطط لحياة أبنائه منذ إن كانوا في مهادهم? فكان عقد عزيمته على تزويج كل واحد منهم بسن السادسة عشرة? ومن ثم اتاحة الفرصة لكل فرد منهم للاستقلال بنفسه في منزل مستقل بالجوار) مضيفة في تعليقها على فرص التعليم:(كان أبو يحيى يخطط لأن يفسح فرصة التعليم لواحد? أو اثنين من أبنائه السبعة ليصبح موظفا?ٍ حكوميا?ٍ مثله? بينما يلتفت الآخرون لأعمال الزراعة في أراضي الأسرة حول القرية).
وتروي على لسان يحيى:(كان أخي أحمد الذي يكبرني بسبع سنوات يتطلع إلى ترك “شها