تأسيـس نـواة حلـف “ناتـو سنـي”
بقلم/ أحمد الشرقاوي
قرار “السعودية” بتشكيل “تحالف إسلامي عسكري” من 34 دولة لمحاربة الإرهاب في العراق وسورية واليمن ومصر وليبيا، الذي أعلن عنه الأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع و ولي ولي عهد السعودية رسميا في مؤتمره الصحفي الثلاثاء، لا يمكن اعتباره مبادرة شخصية صادرة عن مراهق أرعن ومتهور في محاولة لتسويق نفسه بأنه الأقدر على إرضاء الغرب في الحرب على “الإرهاب” من الأمير محمد بن نايف، الذي تعتبره واشنطن بطلا في محاربة الإرهاب في بلاده، كما ذهب إلى ذلك “مجتهد” في آخر تغريداته..
الأمر في جوهره أعقد وأبعد من كونه مجرد منافسة على العرش بين الرجلين، ويعود تحديدا للتطورات الأخيرة التي عرفتها المنطقة بدخول الروسي الحرب على الإرهاب في سورية والشرق الأوسط وإقامته تحالفا إستراتيجيا مع إيران ومحور المقاومة لإسقاط مشروع تقسيم سورية والعراق واليمن وليبيا، في أفق إفشال مشروع الهيمنة الأمريكية الأحادية على المنطقة العربية..
فكرة التحالف كانت بريطانية في الأصل، وفق مقترح تقدم به إلى الإدارة الأمريكية وزير الخارجية البريطاني السابق ‘ويليام هيغ” بعد مناقشته مع “إسرائيل” التي أبدت حماسة كبيرة له، ونسقت طويلا مع الجنرال أنور عشقي والمخابرات الوهابية الترتيبات الهيكلية والإجراءات التنظيمية والعملية الكفيلة بإنجاح مثل هذا التحالف الذي كان في البداية ذو طبيعة عربية لاستبعاد إيران المعنية بمحاربة الإرهاب من المشاركة فيه..
وبالفعل، تلقفت واشنطن الفكرة وتحمست لها، فاستدعى الرئيس أوباما مشايخ الخليج إلى اجتماع “كامب ديفيد” الشهير الذي ناقش مستقبل المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني ودور “السعودية” كشرطي للمنطقة، في محاولة منه لخلق نوع من التوازن بين الحلف الإيراني “الشيعي” والحلف العربي “السني” وفق التوصيف الطائفي الأمريكي والذي يضم “إسرائيل” من الباطن، ورأينا كيف أن شخصيات سعودية بدأت بالحديث علنا عن ضرورة التعاون مع “إسرائيل” كمكون “طبيعي” من مكونات المنطقة، وذهب الجنرال أنور عشقي حد القول، برفض “السعودية” لعزلة “إسرائيل”، وأنه يجب التعاون معها في تقرير مصير المنطقة باعتبارها قوة إقليمية كبيرة شريطة أن تقبل بـ”مبادرة السلام العربية”، من باب التعمية ليس إلا.
حرب اليمن كانت المحك لاختبار القدرة “السعودية” على حشد ما أسمته حينها بالقوة العربية المشتركة لدحر “المتمردين الحوثيين” دفاعا عن الشرعية في اليمن ولوضع حد للتمدد الإيراني في المنطقة، لكن فشل الرياض في إنشاء هذه القوة عبر الجامعة العربية وإدراكها استحالة تحقيق الأهداف العسكرية التي أعلنتها بمناسبة انطلاق عاصفة الوهم والإجرام على اليمن، دفعها للتفكير في إنشاء نواة لتحالف “سني” أوسع لضم تركيا وباكستان باعتبارهما قوات إقليمية كبرى من شأنها الانخراط بفعالية في مواجهة ما تسميه بالتمدد الشيعي في المنطقة، لكن رفض باكستان الانخراط في المشروع الطائفي “السعودي” وتحفظ مصر بسبب عامل “الإخوان”، جعل تركيا تتوجس من أن يؤدي انخراطها العلني في الحرب على الشعب اليمني إلى ردة فعل إيرانية قد تخلط الأوراق في المنطقة برمتها.
النتائج المدهشة التي بدأت تظهر نتيجة الدخول الروسي لمحاربة الإرهاب في سورية، واحتمال لجوء الحكومة العراقية لطلب المساعدة العسكرية الروسية أثار مخاوف أمريكيا من فقدانها للعراق بعد سورية، فأوعزت للسلطان أردوغان بالدخول العسكري إلى بعتيقة شمال الموصل لقطع الطريق أمام التمدد الروسي وإفشال الحلف العسكري الإستراتيجي الذي أقامه الرئيس بوتين مع إيران، وما أثاره من هواجس لدى صناع القرار في واشنطن من احتمال أن يتمدد هذا الحلف إلى اليمن وليبيا بعد الانتهاء من سورية والعراق..
الرئيس أوباما، وبسبب الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها نتيجة فشل سياسة “الصبر الإستراتيجي” في تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، خصوصا لجهة تقسيم سورية والعراق واليمن وليبيا، قرر تعديل استراتيجيته لـ”الحرب ضد الإرهاب”، وأعلن نهاية الأسبوع المنصرم عن أن بلاده عدلت إستراتيجيتها الحالية وقررت أن تدعمها بمزيد من القوة النارية ومن المستشارين لقيادة الحرب على الإرهاب في العراق وسورية..
وكنا قد تحدثنا بإسهاب في مقالة سابقة عن تأسيس قوات “سنيـة” من “السعودية” والإمارات وقطر ومصر والأردن قوامها 100 ألف مقاتل ضمنهم 10 ألف من قوات النخبة الأمريكية و”الإسرائيلية” المتخفية كما جرت العادة، وقلنا أن تركيا ستلعب دور الجوكر لخلق المفاجأة وحسم الحرب وإنزال مشروع التقسيم واقعا على الأرض في العراق وسورية، بضم جزء من الشمال السوري إلى محافظة نينوى والأنبار لخلق “دولة سنية” يحكمها حزب البعث العراقي والمنشقين عن الجيش السوري من جيش حر بالإضافة لائتلاف الإخوان والسلفية الوهابية، وهو القوات التي قدر عديدها رئيس الحكومة البريطانية بـ 70 ألف موجودة على الأرض في العراق وسورية..
لهذا السبب قال لافروف اليوم عقب لقائه بالوزير جون كيري في موسكو، أن واشنطن لا تبدي نية حقيقية للتحالف مع موسكو والدول المعنية لمحاربة الإرهاب، ولهذا السبب ترفض واشنطن التعاون مع النظام السوري لمحاربة الإرهاب بالرغم من أن الجيش العربي السوري وحلفائه هي القوى التي تحارب الإرهاب بشكل فعال على الأرض، وكلنا يعرف أن هدف واشنطن الحقيقي ليس محاربة الإرهاب، لأنه لا يعقل أن يحارب الإرهاب من صنعه وسخره لخدمة أهدافه الجيوسياسية..
كما وأن العالم أجمع أصبح يدرك أن “السعودية” وقطر وتركيا هما الداعمين الرئيسيين للإرهاب في المنطقة، وأن أي تحالف لمحاربة الإرهاب تتزعمه “السعودية” لن يكون الهدف منه محاربة الإرهاب، وما يقال عن أن واشنطن تريد تبيض وجه ‘آل سعود’ بعد حملة الانتقادات الغربية التي تعرضت لها المهلكة في الأسابيع الأخيرة ليس دقيقا تماما، لأن آخر هم واشنطن هو وجه ‘آل سعود’ الكالح، بل ما يهمها بالأساس هو إفشال الحلف الروسي الإيراني لتقسيم المنطقة كما تصر على ذلك “إسرائيل” وصناع القرار في أمريكا..
وهناك ثلاثة مؤشرات بالغة الدلالة على قرار واشنطن المضي قدما ومهما كلف الأمر لتقسيم العراق وسورية:
* الأول، إفشال الحل السياسي في سورية والانقلاب على مقررات مؤتمر فيينا من خلال مؤتمر “المعارضات المعتدلة” التي أقامته “السعودية” في الرياض مؤخرا، وكلنا يعلم أهدافه وما ترتب عن نتائجه من فيتو روسي ورفض إيراني وسوري.
* الثاني، إخراج “السعودية” من المستنقع اليمني للتفرغ للحرب على “الإرهاب” في العراق وسورية، وهذا لا يعني التخلي عن اليمن، بل إدخاله في دوامة المفاوضات العقيمة لغاية الانتهاء من سورية والعراق للعودة إلى تقسيمه من مدخل محاربة “الإرهاب”، فهل سينطلي المقلب على اللجان الشعبية والجيش اليمني؟.. لا أعتقد، فالتصعيد الإستراتيجي في العمق السعودي سيكون عنوان المرحلة، بدعم روسي إيراني إن اقتضى الأمر.
* الثالث، مطالبة الرئيس أوباما تركيا بإغلاق حدودها مع سورية بشكل نهائي، لسببين، الأول حتى لا تؤدي العمليات العسكرية إلى احتكاك بين الروسي والتركي سيفتح حتما على مواجهة شاملة قد تورط الحلف الأطلسي فتتحول الحرب إلى حرب عالمية لا ترغب باندلاعها الولايات المتحدة ولا أوروبا لخوفهم من لجوء الرئيس بوتين إلى السلاح النووي دون سابق إنذار، خصوصا بعد أن عدل العقيدة العسكرية الروسية وأصبح اللجوء لهذا الخيار أمرا حتميا حال شعور روسيا بأن قواتها مهددة، وإعطاء الرئيس بوتين يوم الجمعة الماضي الأمر للقيادة العسكري بالرد الحاسم على أي استفزاز تركي دون انتظار التعليمات، معناه أن الرجل قرر الذهاب إلى أبعد من ما يمكن أن تتصوره واشنطن وحلفها ألأطلسي..
لهذا السبب، بدأ تركيا ببناء جدار إسمنتي عازل في المناطق الحساسة من الحدود مع سورية، انطلاقا من منطقة ‘ریحانلي’ في محافظة ‘هاتاي’ قبالة بلدة ‘أطمة’ بطول ثلاثة أمتار، ووصل البناء حتى الآن لأكثر من عشرة كيلومترات مزودة بكاميرات حرارية، وتعتمد تركيا للإسراع بغلق الحدود على تقنية الجدران الإسمنتية النقالة كما فعلت “إسرائيل” في فلسطين المحتلة.
وواضح أن من ضمن أهداف الجدار وفق ما يؤكد خبراء عسكريون، وقف أي موجة جديدة للاجئين نتيجة العمليات العسكرية المرتقبة في المنطقة، ومنع تسلل حزب العمال الكردستاني إلى العمق التركي، وكانت أنقرة قد نشرت آلاف الجنود والدبابات على الحدود التركية السورية بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسية، وتلقت وعدا من أوروبا بإدماجها في الاتحاد الأوروبي كجائزة ترضية، وهذا يعني أن غلق الحدود التركية هو رسم للحدود الأوروبية الجديدة، وانطلاق تنفيذ عملية تغيير خرائط “سايكس وبيكو” القديمة في منطقة الشرق الأوسط.
وبالتالي، فالتحالف “الإسلامي” العسكري الذي أعلنت عنه “السعودية” ليس له من “الإسلام” إلا التسمية، فيما هو تحالف لقوى طائفية راعية وداعمة للإرهاب وعميلة للحلف الصهيوني الأمريكي والأطلسي، شوهت الإسلام والمسلمين في العالم، هدفه الأساس ليس عدم الربط بين الإسلام والإرهاب أو الدفاع عن سمعة المسلمين كما يقول الإعلام السعودي البليد، بل هدفه هو إفشال روسيا في سورية، ومحاربة ما تسميه أمريكا ومملكة الشر الوهابية بـ”الإرهاب الشيعي” الذي يرهب “إسرائيل” ويهدد مصالح أمريكا في الشرق الأوسط.
لا زال من المبكر الحديث عن فشل أو نجاح هذا التحالف الذي يجري الحديث في بريطانيا وأمريكا و”إسرائيل” حول ضرورة تحوله بسرعة إلى حلف على شاكلة “ناتــو سني” طائفي، وفي حال نجحت “السعودية” في إقناع الدول “السنية بالانخراط العملي والجدي فيه، فسيتوجها واشنطن كشرطي للمنطقة.
ولسوء حظ “السعودية”، رفضت الجزائر وباكستان وأندونيسيا الانخراط في هذا التحالف العنصري، لكن الخطورة تكمن في أن مصر ‘السيسي’ تبدو أكثر حماسة من غيرها للانخراط فيه، خصوصا بعد أن وعدت “السعودية بتفعيل التعاون مع القاهرة في مجال الاستثمارات الاقتصادية الضخمة وزيادة حجم التبادل التجاري والمساعدات لإخراج مصر من مأزقها الحالي، وقرر الغلام سلمان الإشراف بنفسه على هذا الأمر خلال زيارته المرتقبة للقاهرة، مع وعد بإنهاء الإرهاب في سيناء والتمكين له بحكم مصر كإمبراطور مدى الحياة.. وبالتالي، سيستفيق الرئيس بوتين على طعنة غدر جديدة وخيانة من قيادة عسكرية كان يراهن عليها كثيرا لمواجهة مشروع الهيمنة الأمريكية.. لكن في حال حصل، فسيدفع الديكتاتور ‘السيسي’ الثمن غاليا.
ويبقى في النهاية أن نشير إلى أن الإستراتيجية الأمريكية المعدلة التي تنفذها “السعودية” لا تشمل الجوانب العسكرية فحسب، بل والإعلامية والتحريضية الدينية التي ظهرت معالمها مع حجب قناة الميادين وقناة المنار ومواقع تدعم محور المقاومة، وانطلاق حملة عنصرية خبيثة لتشويه الشيعة والتحذير منهم ومن مشاريع إيران الصفوية، وهي الحملة التي انخرط فيها الأزهر في مصر وفقهاء السلطان في المغرب أيضا، هذا بالإضافة لحرب أسواق النفط وأسعاره التي تستهدف منها “السعودية” روسيا وإيران خصوصا بعد أن بدأت تنافس موسكو في محيطها الجيواستراتيجي وتغرقه بالنفط الرخيص الذي وصل اليوم أحوالي 35 دولار..
ومعلوم أن ما تسعى إليه أمريكا، خصوصا في العراق، هو مد أنبوب الغاز القطري عبر كردستان وتركيا لتعويض الأخيرة وأوروبا عن الغاز الروسي، ما يعطي للحرب الدائرة في المنطقة اليوم بعدا وجوديا ومصيريا بالنسبة لروسيا وإيران ومحو المقاومة.
لا ندري ما الذي سيعدّه الروسي والإيراني للرّدّ على هذا التحالف الطائفي الذي يستهدفهما معا، لكن الوزير لافروف قال اليوم، من المبكر تقييم هذا التحالف، وعليه انتظار بعض الوقت للحصول على مزيد من المعلومات..
وفي انتظار ذلك، لا نملك من جهتنا إلا فضح ما تقوم به “السعودية” من إجرام في حق الأمة، ومواجهة أدواتها في المنطقة بكشف أوراقها، وهي الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي آثرت بيع ضميرها ودينها ومصالح شعوبها للشيطان مقابل حفنة من الدولارات..