رفقا بتونس….
إن أحداث تونس الصاخبة والمثيرة صارت في مركز الاهتمام العربي والدولي. فلتونس مكانة خاصة في قلب الشمال الأفريقي والعالم العربي? كبلد شهد نهضة عظمى لحقوق المرأة? ونموا اقتصاديا باهرا فاق نمو معظم الدول العربية? وتطورا تعليميا جعل المنظمات الدولية المختصة تشيد بالنهضة التعليمية التونسية وانحسار الأمية بين السكان.. وتونس دولة علمانية? وقفت سدا في وجه تهديد الجماعات الإسلامية المتطرفة? وظلت تعتز بعلمانيتها برغم الأخطار الكبرى التي تمثلها القاعدة والجماعات المتطرفة في تلك المنطقة من العالم العربي? وعمليات الإرهاب المستمرة? التي كان آخر ضحاياها شابين فرنسيين كانا في النيجر.
إن معضلة تونس هي أولا أن البلد فقير بثرواته الطبيعية? فهو ليس? كالجزائر مثلا? بلد غاز ونفط? بل يعتمد على التجارة والخدمات والسياحة والاقتصاد الحرفي? وما يعنيه ذلك من عجز عن استيعاب كل أصحاب الشهادات العليا في سوق العمل ما لم توضع خطط وتبتكر إجراءات عملية لضمان ذلك للمرحلة القادمة. ومن الصدف أنه? في هذه الأيام نفسها? نشرت صحيفة الفيجارو الفرنسية صفحة كاملة عن بطالة أصحاب الشهادات العليا في الصين مع صور العشرات منهم وهم يلوحون بشهاداتهم امتعاضا? ومنهم من صرح بان الدولة تعتبرهم ” نملا””- أي لكثرتهم. هذا عن الصين? التي تتحول إلى دولة الاقتصاد الأكثر نموا والأوسع انتشارا تجاريا في العالم. فكيف عن بلد صغير وفقير الموارد كتونس?! ليس هذه تبريرا للبطالة في تونس? ولكنه تأكيد على حقيقة أن الاقتصاد التونسي بوضعه الحالي غير قادر على استيعاب جميع أصحاب المؤهلات العالية.
في 1987 أقام بن علي صندوقا وطنيا للعمالة? وصندوقا وطنيا للتضامن الاجتماعي لصالح المناطق المهمشة. ولكن التطور الذي حصل لم يكن كافيا لمعالجة كل المشاكل الخاصة بالفقر والبطالة. وفي برنامج بن علي لرئاسته الحالية [ 2009- 2014 ] وعد بخلق 415000 وظيفة وعمل? وهو الوعد الذي جدده هذه الأيام.
إن النظام التونسي يمكن وصفه بنظام التسلط الفردي برغم أن هناك حريات نقابية وسياسية لا تنكر? ولكنها غير كافية. وإن الهاجس الأمني? خوفا من الإسلاميين المحليين والقاعدة المحيطة? جعل النظام يبالغ في إجراءاته الأمنية دون توفير ضمانات كافية لحماية حقوق الإنسان وحرية تداول الإعلام? حيث تم فرض رقابة صارمة على وسائل إعلام واتصال كالانترنيت. وعامل آخر في المبالغة في الجانب الأمني هو موضوع الهجرة السرية للدول الأوروبية? وضغوط هذه الدول على دول المغرب العربي لتشديد المراقبة لمنع تهريب المهاجرين للضفة الشمالية من المتوسط.
إن الانكماش السياسي? وإن التشدد الأمني المفرط? وشبهات الفساد التي تطال بعض المقربين من الرئيس التونسي لا تستقيم مع مستلزمات ومواصفات الديمقراطية والمجتمع المفتوح. وهو ما أدركه الرئيس التونسي للتو? فأمر برفع القيود عن حرية الإعلام? كما وعد بعدم ترشيح نفسه للرئاسة القادمة- وحسنا فعل.
إن التظاهر حق ديمقراطي مشروع? ويظهر أن المظاهرات الشبابية بدأت عفوية ولكن هناك من حاولوا استغلالها سياسيا برفع سقف المطلب الاجتماعي حول العمل إلى المطالبة بإزاحة الرئيس التونسي – [ الشيوعيون الفرنسيون وأقصى اليسار الفرنسي طالبوا هم أيضا بذلك] – دون التفكير بالفراغ الذي ينجم? والذي لا تستطيع تنظيمات اليسار وأ?َقصى اليسار التونسية ملأه? بل سينفتح الباب أمام التطرف الإسلامي. وها هو زعيم قاعدة المغرب الأقصى يدعو الشباب التونسي لإزاحة بن علي وإلى التطوع في صفوف شبكاته المجرمة. كما أن حق التظاهر لا يعني تخريب الممتلكات العامة والاعتداء على مؤسسات الدولة. ويظهر أن هناك أقلية استغلت المظاهرات للاندساس لغرض التخريب واستعمل قذائف مولوتوف? وهو ما نشاهده أيضا في الغرب? إلا أن الفرق أن الدول الغربية أتقنت كيفية التعامل مع أعمال الشغب والتخريب بعد تجارب طويلة معها? أي التعامل معها بحزم ولكن بلا رصاص حي إلا إذا كان بعض المتظاهرين مسلحين ويهددون حياة البوليس. أما في مظاهرات تونس فإن عشرات الضحايا وقعوا ضحية الذخيرة الحية? أي الرد بعنف مبالغ فيه وغير مبرر.
إن اضطرار الرئيس التونسي لتقديم تنازلات كبرى خطوة مهمة تحسب له? ويجب على المعارضة الوطنية والديمقراطية التونسية انتهاز هذه الفرصة لإعادة الهدوء للبلد? وبدء حوار بناء مع الرئاسة التونسية لوضع خارطة طريق مدروسة وعملية للإصلاح الاجتماعي والسياسي? وبروح الحرص على إيجاد الحلول العملية المتفقة مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي في تونس ومع القدرات الفعلية. ونعلم أن بطالة الجامعيين لا تحل بين عشية وضحاها? ولكن المهم هو وضع الخطط المدروسة وإرادة العمل والتنفيذ. ولا أعتقد أن مسألة الانتخابات اليوم هي الحل في هذا الجو الذي لا يزال مشحونا و في جو عدم الثقة الذي لا تزال غيومه تحوم على المناخ العام? وإنما ممكن تشكيل حكومة ائتلافية وطنية تنال ثقة الرئاسة والشارع الديمقراطي? والعمل سوية من أجل الحفاظ على مكتسبات العلماني