لغة تحريضي?ة.. وسخرية سوداء
لم تنبثق شعر?ية جواد الحط?اب من فراغ لأنها نابعة أصلا?ٍ من موهبة فذ?ة يمكن تلم?سها في أي نص من نصوصه الشعرية? سواء القديمة منها التي نشرها في دواوينه الأولى (سلاما?ٍ أيها الفقراء)? (يوم لإيواء الوقت) و (شتاء عاطل)? أو الحديثة منها التي إحتفى بها ديوانه الصاعق (إكليل موسيقى على جثة بيانو) الذي أثار ردود فعل نقدية واسعة أشر?ت على الكون الشعري الذي وقف? في الأقل? بموازاة الفجيعة التي مر?ت بالعراق منذ الاحتلال الأسود حتى اللحظة التي غابت فيها (أطوار بهجتنا) كلها.
هذه المجموعة الشعرية تبدو مقتصدة جدا?ٍ ومتقشفة في مفرداتها وقاموسها اللغوي? ولكنها غنية وم?ْكتنزة في دلالاتها ورموزها ومضامينها الشعرية الجارحة التي تتجاوز الحدث وتتسي?د عليه. حرص الشاعر جواد الحطاب? في الجزء الأول من الديوان الذي يضم ست عشرة قصيدة? على أن تكون قصيدة (المتنب?ي) هي النص الاستهلالي الذي يفضي الى الكارثة السلطوية? التي كانت ولا تزال? تتناسل? م?ْؤر??قة إي?انا? منذ ظهور ثنائية الحاكم والمحكوم بمفهومها الاستبدادي في بلاد الرافدين وحتى يومنا هذا. لقد إختار الشاعر بذكاء شديد حقبة العصر العباسي الثاني لما كانت تتمي?ز به من ضعف وهوان بحيث أن الخدم باتوا يتدخلون في أمور السلطة وصناعة القرار.
قد تبدو هذه القصيدة غريبة شكلا?ٍ ومضمونا?ٍ? ولو تتبعنا طريقتها السردية الرتيبة? لوجدنا أن بناءها المعماري مقصود? إذ تعم?د الشاعر أن يضع المتلقي في دو?امة من الأسماء النمطية المتشابهة المحصورة بين المتوكل بالله والمستعصم بالله. ثلاثة وعشرون إسما?ٍ يشبه وقعها على الرؤوس وقع المطارق الحديدية المدمرة التي لا تسعفنا منها إلا هذه السخرية السوداء والصيغة الاستفهامية الم?ْر?ة.
(ت?ْضحكني هذي الاسماء
أرب??َ هذا? أم شم?اعة اخطاء?!!)
لقد وضعنا الشاعر جواد الحط?اب في قلب الحدث من دون تأخير? وهذه التقنية الفنية تستعمل غالبا?ٍ في القصة القصيرة المشذ?بة التي تعتمد التكثيف أسلوبا?ٍ وبنية? ولا تعو?ل على الإسهاب أو الزوائد والترهلات الوصفية التي ت?ْثقل كاهل النص? خصوصا?ٍ إذا كان هذا النص يعالج ثيمة كونية تتحر?ش بأحد أركان الثالوث المقد?س? كالسياسة? أو رأسها الأجوف على الأصح? هذا الرأس الذي يمتلك القدرة الشاملة? خصوصا?ٍ في عالمنا الثالث? على التلاعب بمقد?رات الناس ومصائرهم. في هذا النص الشعري المتفر?د يلعب الهامش دورا?ٍ م?ْماثلا?ٍ لما يلعبه المتن في القصيدة. وقد عز?ز الشاعر متن قصيدته بأحدى عشرة إحالة مهمة لا يمكن من دونها تأويل النص بطريقة علمية ممنهجة. م?ن هنا فإن الاضاءات التي يقد?مها الهامش? بعد الجهد الدؤوب الذي قد?مه الشاعر في غربلة المعلومة وصياغتها بهذا الشكل الدال والمعب??ر في آن?ُ معا?ٍ? تكاد تكون موازية لشعرية النص برمته? وما ينطوي عليه من صور شعرية مبتكرة تنطبع في ذاكرة القارئ ومخيلته ولا تغادره بسهولة.
يمه??د الشاعر لمتل?قيه أو قارئه في كيفية العودة الى الماضي البعيد لأنه يستهدف تقويض هذه السلسلة الطويلة من الأسماء الفارغة التي فرضت هيمنتها على أذهان الناس وترسخ?ت في ذاكرتهم الجمعية عنوة? وربما ساهم فعل الطاعة القسرية التي فرضها الدين على عامة الناس بحجة (وأطيعوا أولي الأمر منكم) بترسيخ هذه الأسماء التي كان يجب أن ت?ْكنس لأن وجودها (الطارئ) وإن طال? يشك?ل عداء?ٍ سافرا?ٍ على الذائقة البص?ِرية التي ينبغي أن تبقى سليمة وغير مشو?هة. لقد هيأ الشاعر لقارئه (نافذة مفتوحة على الذكرى) التي تسترجع الأحداث وتستعيدها بمرارة هذه الـ (لو)? أداة الشرط الامتناعية? التي تكررت سبع مرات وكان يمكن لها أن تتكرر أكثر من ذلك? فهي تفيد إمتناع الجواب لامتناع الشرط? وإمتناعات الأجوبة كثيرة في العراق والعالم العربي الذي بات ي?ْعرف? تلميحا?ٍ وتصريحا?ٍ? بحاضنة الاستبداد. لنتأمل هذه الأبيات بعين تاريخية منصفة عل?نا نفهم السبب الحقيقي الكامن وراء إمتناع الأجوبة.
(لو كان ابن أبي طالب قد مد? يديه الى العباس
لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل
لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم
لو أن أبا مسلم? لم يتشي?ع لابراهيم
لو صدق السفاح ..
لو تم?ت بيعة بن عبد الله محمد
ولو أن المنصور.)
تشير المعلومة التاريخية الى أن عليا?ٍ (رض) لم يبايع العب?اس عم النبي لأنه كان مشغولا?ٍ بجسد الرسول الطاهر المسج?ى أمامه. ولو فعل لكان للتاريخ كلام آخر! لكنه لم يفعل. ثم تتكرر هذه المتوالية الشرطية التي تكشف طوي?ة الناس أيضا?ٍ كما حدث لأهل الكوفة الذين بايعوا مسلم بن عقيل بن أبي طالب. وحينما جاء غدروا به وسل?موه الى جند عبيد الله بن زياد ليلقى حتفه على أيديهم. إذا?ٍ? فأهل الكوفة تخاذلوا وخذلوه? ولو لم يفعلوا ذلك لكان للتاريخ كلام آخر! وتتواصل المتوالية الشرطية على هذا المنوال لنصل البيت السابع الذي يقول: (لو أن المنصور. . .) ثم نكمل المتن من الهامش الذي أشرنا الى أهميته قبل قليل فسوف تصبح الجملة الناقصة كالآتي: ( لو أن المنصور لم