تحرير بعض الذي جرى في مصر
إذا لم تكن تعرف ما هو «الأنومي»? فأنت لا تعرف حقيقة ما جرى لك في هذا الزمن? ومن ثم لا تعرف أنك مواطن بدرجة «مأزوم»? وحل مشكلتك ليس بيدك!
1
«الأنومي» باختصار مصطلح شائع في كتابات أساتذة علم الاجتماع? يستخدمونه في وصف الانفلات الذي ينتاب قيم المجتمع بحيث تصبح عاجزة عن القيام بوظيفتها الإيجابية.
والكلمة لها أصل في اللغة اليونانية القديمة ومعناها اللا قانون «نوموس تعني القانون».
ولكن عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إميل دوركهايم أشاعها في كتاباته للتعبير عن الحالة التي يتراجع فيها الدور الإيجابي للقيم? بحيث تكرس التراجع والتخلف بدلا من أن تكون رافعة للنهوض والتقدم.
ومنذ ذلك الحين (آخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين) دخل المصطلح إلى موسوعة العلوم الاجتماعية وأصبح يستخدم في وصف أزمة القيم أينما حلت.
أما مناسبة استدعاء المصطلح في الوقت الراهن فترجع إلى عاملين? أحدهما شخصي والآخر موضوعي.
السبب الشخصي أنني كنت بصدد إعداد بحث طلبته مني إحدى الهيئات الدولية عن القيم في العالم العربي?
وحين قطعت شوطا في مطالعة المراجع المصرية بوجه أخص? وجدت أن أساتذة علم الاجتماع بلا استثناء تقريبا يتحدثون عن أن مصر تعاني أزمة في منظومة القيم الاجتماعية السائدة? وأنهم يشيرون إلى الحالة المصرية باعتبارها نموذجا «للآنومي»? التي في ظلها جرى تفكيك القيم الإيجابية وتراجعها بشدة? لحساب عديد من القيم السلبية التي أصبحت كالسوس ينخر في جسد المجتمع.
وقد راعتني بعض الشهادات والأحكام التي أطلقها أولئك الخبراء? إلى الحد الذي أقنعني بضرورة الانضمام إلى حملة دق الأجراس التي تستهدف التنبيه إلى خطورة الظاهرة والتحذير من مغبة التهوين من الأمر أو الانصراف عنه
أما السبب الموضوعي فيتلخص في أنني لاحظت أن أجواء الانتخابات التشريعية الراهنة دفعت بعض حملة المباخر في مصر إلى المبالغة في تزيين الواقع والإشادة بالإنجازات التي تمت في مختلف المجالات? مستخدمين في ذلك سيلا من الأرقام التي يتعذر على المواطن العادي أن يتحقق من صحتها.
وإذ لا أشك في أن ثمة إنجازات تحققت خلال العقود الثلاثة الأخيرة? إلا أن حفاوتنا بها لا تتحقق إلا بعد الإجابة عن أسئلة منها على سبيل المثال:
من الذي استفاد منها?
وكيف ترجمت إلى واقع في حياة المواطن العادي?
وما القيم الاجتماعية التي أفرزتها?
2
في 18 أغسطس من العام الماضي (2009) كتبت مقالا تحت عنوان «محاكمة مثيرة لقيم المصريين»? استعرضت فيه ما توصلت إليه دراسة تحليلية لمنظومات القيم السائدة خلال نصف القرن الأخير.
وكانت الدراسة قد صدرت عن مركز الدراسات المستقبلية بمجلس الوزراء المصري? وقام بتحريرها الدكتور محمد إبراهيم منصور والباحثة سماء سليمان.
وحين تتبعت متغيرات القيم في مصر منذ قامت ثورة يوليو عام 1952 إلى أن دخل المجتمع المصري عقد التسعينيات? وجدت أن من سماتها عدة معالم أعيد التذكير بها تمثلت فيما يلي:
* انتفاء قيمة الخير والحب? إذ أصبح الخير والسعي إليه والعمل على تحقيقه سواء للذات أو للآخرين من الأمور النادرة? وكأنه أصبح معقودا على الذات فقط.
* تراجع قيمة الإحساس بالأمان والطمأنينة? إذ في عهد الرئيس عبد الناصر كان ميل المصري للطمأنينة قويا? لاعتماده على شخصه وعلى الدولة التي وفرت له كل شيء.
وفي عهد السادات بدأ القلق والاكتئاب يتسربان إليه? واستمر ذلك خلال الثمانينيات والتسعينيات وحتى اليوم? إلى أن لوحظ أن المصري أصبح مسكونا بالانفعالات المختفية تحت بعض الصمت والسكينة? وهو ما يعبر عنه بالمجاملة حينا وبالنفاق حينا آخر.
وانتهى الأمر به أن هرب إلى الغيبيات التي وفرت للبعض طمأنينة مزيفة? وامتزجت عند المصري روح الفكاهة بالاكتئاب. حتى أصبحت تعبيرا عن المرارة والسخرية وليس عن المرح.
* انتفاء قيمة العدالة? إذ غابت العدالة الوظيفية بسبب المحسوبية? والعدالة السياسية جراء تزوير الانتخابات? والعدالة الاقتصادية بسبب الرشوة والفساد? والعدالة الاجتماعية بسبب تصعيد المنافقين والمؤيدين وكتاب السلطة. ومن ثم باتت قيم النفاق والوصولية والنفعية والتواكل والصعود على أكتاف الآخرين هي الصفات الغالبة.
* تراجع القدوة? إذ أصبح الناس يفتقدون النموذج الذي يقتدون به? خصوصا في ظل انتشار أخبار فساد أصحاب المناصب العليا والزعماء السياسيين والروحيين.
* تراجعت قيم العلم وازداد احتقار اللغة? كما تراجع التفكير العلمي? ومعهما تراجعت قيمة العمل? الذي أصبح مقصورا إما على أصحاب الواسطة أو خريجي الجامعات الأجنبية? وإزاء انتشار الفساد تراجعت قيمة الأمانة وشاع التسيب واللامبالاة.
* تراجعت قيمة الأسرة التي أصبحت تواجه خطر التفكك? في ظل غياب التراحم? وزيادة مؤشرات الفردية والأنانية واستغراق في المظهرية والتطلعات الشخصية.
* تراجع قيمة الانتماء للوطن? إذ أصبح المواطن المصري جزيرة منعزلة مستقلة عن الوطن يشعر بوحدة غريبة? وانكفاء على الذات? وذلك نتيجة لإقصائه عن أي مشا