“كرنتينة” عدي رشيد .. الحياة العراقية بين “فرضة” الاحتلال و”شعيرة” الاقتتال الطائف
لعل أكثر لقطة تظل محفورة في ذاكرة مشاهد فيلم المخرج عدي رشيد الجديد “كرنتينة ” بعد انتهاء عرضه هي اللقطة التي وضعت بها عين الكاميرا على دبابة أمريكية تجوب شوارع بغداد لتتداعى الصور المهتزة بين الفرضة والشعيرة وكأن المخرج ينظر للحياة في ذلك المكان من خلال فوهة بندقية أميركية كانت تبحث عن فريستها وهي تتحرك ذات اليمين وذات الشمال يرافقها الضجيج الذي تحدثه حركة الدبابة المذعورة على الشارع وهي توزع الذعر على كل من يسير في الشارع , في دائرة خوف متبادل يتقاسمه الجلاد والضحية , وهي لقطة طويلة وكررت أكثر من مرة في بداية الفيلم ونهايته فكانت الإطار الذي يحيط بكل ما يحدث داخل المشهد الذي رسمه المخرج بحرفية من عايش الأحداث التي مر بها العراق خلال السنوات الماضية وما يزال يصطلي بأوارها .
وبموازاة ذلك يظهر إطار آخر وهو الماء الذي يرمز في الآداب والفنون الخالدة الى الطهر وفي الأديان للقداسة لكنه في “كرنتينة”عدي رشيد يتخذ دلالة مختلفة فالمشهد الأول يظهر ماء دجلة مليئا بالأوساخ والقاذورات والقمامة اما المشهد الأخير ففيه تلقى جثة القاتل المأجور الذي تركه المخرج بدون إسم إشارة الى أن القاتل بلا هوية
وبين فرضة الاحتلال وشعيرة الإقتتال الطائفي وماء دجلة الذي صار مقبرة للنفايات تتحرك أحداث فيلم “كرنتينة “الذي عرض ضمن الأفلام الروائية الطويلة التي شاركت في مهرجان أبوظبي السينمائي حيث قام المهرجان بدعم إنتاجه ضمن برنامج”سند”
فقدم خلال 88 دقيقة صورة تراجيدية للواقع العراقي الراهن , والواضح أن الأحداث التي شهدها العراق منذ عام عام2003 م أفرز مجموعة من السينمائيين كانوا حريصين على تدوين الواقع بصريا وإظهار المشهد بقتامته ,بشكل يثير الإشمئزاز وهو الأمر الذي جعل أحد أصدقائي الظرفاء يهمس بعد مشاهدته الفيلم مازحا :”لقد شاهدت كم?ا?ٍ من الذباب أكثر من الممثلين “!
وتركيز المخرج عدي رشيد والمخرج محمد الدراجي بشكل خاص على إظهار تلك القتامة , بإصرار هو أقرب للسادية ,ليفتحا الجراح ,وليقولا: انظروا هذا هو عراق ما بعد الإحتلال , ربما لأن السينما وثيقة , إذا أحسن?ا الظن , وإن لم نحسنه فالموضوع العراقي بشكله القاتم المثير , المستفز للمتلقي , صار مطلوبا في المهرجانات العالمية ففصلا أشرطتهما على مقاسها !
وفي كلتا الحالتين فالجهد الذي يبذلانه يحسب لهما وللآخرين الذين يشاركونهما التطلع ,والجرأة في الطرح , في وقت يغيب به ,أو يغي?ب , جهد الشاعر والقاص والروائي العراقي وهم المطالبون اليوم أكثر من أي وقت أكثر بأن يقولوا كلمتهم في الذي جرى ويجري !
وعدي رشيد واحد من هؤلاء السينمائيين الشباب الذين يمتلكهم حماس شديد لإيقاظ السينما العراقية من رقدتها بعد13سنة من التوقف وهي ,كما هو معروف , سنوات الجدب السينمائي بعد فرض الحصار على العراق حيث منع استيراد المواد الأولية التي تدخل في صناعة السينما, فهو –عدي رشيد – يترأس مركز الفيلم العراقي المستقل الذي يجمع العديد من السينمائيين والمهتمين بالسينما من الشباب وأخرج أول فيلم يصنع في العراق بعد الاحتلال الأمريكي وحمل عنوان “غير صالح للعرض” الذي شارك في مهرجانات عربية وعالمية وفاز بجوائز عديدة من يبنها جائزة أفضل فيلم في مهرجان سنغافورة 2005 وهاهو يطلع علينا بفيلم جديد هو “كرنتينة” الذي كتب السيناريو له أيضا ومن تمثيل أسعد عبد المجيد وآلاء نجم وحاتم عودة وحيدر منعثر وساجد علي وروان عبدالله وزهرة بدن وهادي المهدي وضيوف الفيلم : سامي عبدالحميد وعواطف نعيم وازادوهي صموئيل وعواطف السلمان.
والعتبة الأولى في الفيلم –العنوان- “كرنتينة” تحمل دلالة مزدوجة ف”كرنتينة” كلمة لاتينية تعني المصحة النفسية وهي بالوقت نفسه محلة في بغداد شهدت صراعا طائفيا , وقد مزج الدلالتين ليشير الى المكان الذي تدور به الأحداث و الشخوص الذين يشاركون في صنعها حيث يستنتج المتلقي إنهم يحتاجون الى مصحة نفسية تشفيهم مما يعانونه من إحباط ويأس وفشل وخطايا وأخطاء من خلال حكاية أسرة مهجرة تتألف من أربعة أشخاص (مريم )الشابة الصامتة التي تعيش متوحدة مخفية معاناتها كون أن أحدهم إعتدى عليها جنسيا , وأصابع إتهام المتلقي تشير الى والدها (صالح) المتدين الذي يمنع زوجته من كشف شعرها طالما في الطابق العلوي من بيت “الأستاذ”الذي آواهم يقيم به رجل يتضح فيما بعد إنه قاتل مأجور لديه قائمة بأسماء أشخاص يقوم بتصفيتهم وكان أولهم أستاذا جامعيا وتنشأ علاقة جنسية بين هذا القاتل الذي ظل بدون إسم ,كما أشرنا, و(كريمة) زوجة صالح وشيئا فشيئا يبدأ (مهند) الإبن الأصغر الذي يدرس في الصباح ويعمل ماسحا للأحذية بعد الظهر يشعر بصعود أمه المريب المتكرر الى الأعلى , حيث ينتظرها القاتل الذي يسرق منه كتاب الرياضيات ليحرقه إشارة الى حرق المعرفة بدافع الحقد كونه-القاتل- لم يكمل تعليمه الجامعي وهذا ما يجعله يحقد على زوج حبيبته السابقة هناء فيغتاله , وهذا التصرف يغضب أسياده لأن