نظريتي والسادات وقارئة الفنجان
لطيف?َ الأستاذ محمد حسنين هيكل حتى في صغائره. فهو أثار زوبعة حول الفنجان? فكانت زوبعة في فنجان فعلا.
“كشف” هيكل (كما يحسن بمؤرخ الأحداث) أن أنور السادات كان قد أعد? فنجان?ِ قهوة?ُ للرئيس جمال عبد الناصر قبل ثلاثة أيام من وفاته.
ووضع هيكل سيناريو بوليسي? لطيفا?ٍ بدوره? عندما قال أن السادات أبعد “الس?ْفرجي” عن المطبخ ليختلي بالفنجان! ومن دون أن يقطع رأيا في شأن ما إذا كان السادات وضع س?ْم?ا بالفعل? إلا أن هيكل قدم من الإيحاء ما كان كافيا تماما لإعادة بعث الزوبعة في ذلك الفنجان.
ويعرف هيكل أن قصة الس?ْم ليست جديدة على أي حال. فقد كانت أثارتها هدى عبدالناصر وخسرت بسببها 150 ألف جنيه دفعتها كتعويض? بحكم من المحكمة لصالح رقية السادات.
ومثل كل مهزوم لا يقبل التسليم بالهزيمة? فقد عاد أبناء الزعيم الراحل ليتعلقوا بأهداب الفنجان? فأدلى كل منهم بدلوه في استدرار الإيحاء بأن والدهم رحل بـ.. شربة فنجان.
وسعى الدكتور الصاوي حبيب الطبيب الخاص بالزعيم الراحل من أجل أن يستدرك الغارقون في الفنجان شيئا من المنطق? إلا انه لم ينجح كثيرا. أولا لأنه طبيب. (وأيه يعني طبيب أمام افتراضات “طبيب أحداث” مثل هيكل?) وثانيا? لأن حكاية قتل عبدالناصر تخفف الكثير من الآلام في نفوس الذين شكل غياب عبدالناصر المفاجئ صدمة?ٍ لهم. وثالثا?ٍ? لأن شعوبا?ٍ مأزومة?ٍ عادة?ٍ ما لا تكون بحاجة الى المنطق. وهذا هو أحد أهم مصادر الفوضى السائدة في العالم العربي? بالطول والعرض.
الطبيب الخاص قدم كل قرائن المنطق? قائلا أن الزعيم الراحل كان قد تعرض لأزمة قلبية حادة قبل وفاته بعام? فضلا?ٍ عن أنه كان يعاني من تصلب في الشرايين ودوالي الرئتين? ومضاعفات مرض السكري.
وأشار حبيب الى أن “تاريخ عائلة عبدالناصر يحفل بوفيات مشابهة? حيث توفي بعده بعام شقيقه في نفس السن تقريبا?ٍ وبنفس المرض? ومن بعدهما بفترة وجيزة توفي شقيقه الثاني وبنفس المرض أيضا?ٍ? كما أن والدة عبدالناصر توفيت بصورة فجائية في سن الثلاثين? وتوفي خاله أيضا?ٍ في نفس عمر عبدالناصر? بأزمة قلبية ومضاعفات السكري”.
ولا أحسب?ْ أن أحدا?ٍ يمكنه الإفتراض? حتى ولو دبت الفوضى في كل الأركان? إن السادات عمل فنجان قهوة لكل هؤلاء!
شيء?َ مباشر?َ ما كان يجب أن يغيب عن بال المعنيين بالسكري وتصلب الشرايين? هو أن عبدالناصر رحل بعد أكثر من شهر من انقباض القلب? واكتئاب المأساة? وبؤس الواقع الذي نجم عن ما يسمى “أيلول الأسود”. فما كان ي?ْنظر اليه على أنه “ثورة?َ فلسطينية” كان يتعرض للذبح في الأردن. أولا?ٍ? لأن “الثورة” انقلبت بثوريتها على سلطة الملك الراحل حسين وأرادت الإطاحة به. وثانيا?ٍ? لأن الوقائع دلت على سوء تقدير عنيف من جانب الطرفين. وثالثا?ٍ? لأن هذه الوقائع انتهت بخسارة تلك الثورة لأطول حدود عربية مع الكيان الصهيوني.
وكنت?ْ سأستغرب أكثر لو أن عبدالناصر لم يمت بعد تلك المأساة!
وكان من الطريف تماما?ٍ ألا? يلتفت أحد?َ الى أقرب ما حدث ق?ْبيل الوفاة. فعندما تكون ثمة رغبة?َ? بالمقاييس السايكولوجية? بتحويل وفاة?ُ الى أسطورة? فان أول ما يمكن اللجوء اليه في عالمنا العربي? هو قراءة… الفنجان.
مع ذلك? فلدي ما يكفي من الادلة على أن السادات قتل عبدالناصر بالفعل. وقناعتي الراسخة هي أن “نظريتي” لن تحظى بنفس المستوى من الإهتمام? أولا? لأني لست مؤرخ أحداث. وثانيا? لأن أدلتي لا تنتسب الى أي فوضى سايكولوجية? وثالثا? لأني لست?ْ بقارئة فنجان.
لقد قتل السادات عبدالناصر عندما تخلى عن كل قيم ثورته التحررية. واطلق على جثته النار عندما تخلى عن مشروعه القومي وعزل مصر. وزاد في قتله عندما حو?ل نصر أكتوبر الى هزيمة استراتيجية. ودس? له الكثير من السم عندما جعل مصر قاعدة للنفوذ الاميركي (قائلا انها تملك 99% من أوراق الحل). وشنقه عندما طرد الخبراء السوفييت لينتقل الى الصف الآخر في معادلة التوازن الاستراتيجي بين القوتين العظميين. وأوغل فيه طعنا عندما انقلب على صاحب مشروع التحرير ليكون صاحب مشروع سلام. وداس على رأسه بالحذاء عندما كسب جائزة نوبل للسلام مناصفة مع مناحيم بيغن بالذات. وقام بتصفيته عندما سجن كل رجالات الثورة المصرية. وسحق قبره عندما سحق مشروعه التنموي ليحوله الى مشروع خاص بـ”القطط السمان”.
كل هذه أدلة. ولكن فشلت هدى عبدالناصر في الأخذ بها الى المحكمة كإثبات على الجرم المشهود.
أما سيدنا ومولانا محمد حسنين هيكل? فقد “جلست والخوف بعينها تقرأ فنجاني المقلوب. قالت يا ولدي لا تحزن…”.
وأما لسان حالي? فكان يقول: الكشف?ْ عليك هو المكتوب. يا ولدي? قد مات شريدا من قرأ كتاب الأحداث بالمقلوب.