الأمة العربية: تحولات كبرى ومهام مطلوبة
تتمي?ز الأمم الحي?ة بأنها قادرة عبر قياداتها وحركات النهوض والتحرر فيها أن تقرأ بدقة وموضوعية التحولات الجارية حولها? سواء في محيطها المباشر أو على المستوى الدولي? فلا تستسلم لليأس أو الإحباط إذا ما حملت هذه التحولات معطيات سلبية بل تسعى لمقاومتها وللاستفادة من بذور تناقضات داخلية كامنة فيها? كما أنها لا تفرط بالتفاؤل والاسترخاء إذا ما بدا لها أن هذه التحولات المحيطة بها تنطوي على إيجابيات لصالحها فتسعى للاستفادة منها عبر تعزيز ثقتها بنفسها وتطوير قواها وقدراتها دون أن تهمل التحسب لمواجهة هجمات مرتدة يمكن أن يقوم بها أعداؤها لتعطيل مفاعيل الإيجابي من هذه التحولات.
والأمة العربية? هي واحدة من الأمم الحي?ة رغم كل مظاهر التردي التي يتسم بها واقعها الراهن? لاسي?ما الواقع الرسمي? والدليل على ذلك أنها لم تتوقف منذ أكثر من قرنين عن مقاومة كل محاولات احتلالها وإخضاعها من أقصى مغربها حتى مشرقها الذي شهد وما زال? على مدى قرن? أصلب أشكال المقاومة ضد المستعمرين القدامى بغزواتهم العسكرية المباشرة? أو المستعمرين الجدد منهم بمشاريعهم الاستيطانية والاحتلالية? كما هو حال المشروع الصهيوني? أو حتى بمشاريعهم وأحلافهم السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة على تفتيت المجتمعات وتغيير الهويات? ونهب الثروات? والانقضاض على المخزون الروحي والإيماني الهائل الذي تمتلكه كأرض عرفت أعرق الحضارات وانطلقت منها أعظم الرسالات السماوية.
وإذا كان المجال هنا لا يتسع لاستعراض مراحل الكفاح الوطني والقومي المجيدة الممتدة من ثورات التحرير المتتالية في أقطار المغرب العربي? لاسي?ما ثورة الجزائر الخالدة? إلى حركات المقاومة والاستقلال التي شهدتها مصر وسوريا ولبنان وصولا?ٍ إلى فلسطين المجاهدة دون توقف منذ أكثر من قرن? إلى العراق الذي كانت لانتفاضاته المتواصلة ضد الاستعمار? ولمقاومته التاريخية ضد احتلال الدولة الأكبر تداعيات ضخمة ومفاعيل كبرى لا تنحصر آثارها به فقط? بل بالإقليم كله وصولا?ٍ إلى العالم بأسره. فإن الموضوعية تقتضي ان نسجل اليوم بأن ما يشهده العالم هذه الأيام من أزمة اقتصادية ومالية وأخلاقية هائلة انطلاقا?ٍ من مركزه الاستعماري الأكبر في الولايات المتحدة? يقع في رأس أسبابها ما ألحقته بها مقاومة الأمة وممانعتها من فلسطين إلى لبنان? ومن العراق إلى أفغانستان? وما تزال من خسائر على كل صعيد.
لكن استعراض تاريخ أمتنا الممتد حتى الساعة أمر بالغ الأهمية لكي نستكمل قراءة المشهد العربي بموضوعية وشمولية فلا تستبد بنا فقط تلك الصورة البائسة والمظلمة التي تطل علينا عبر مواقف وتنظيرات وتحليلات تشكل امتدادا?ٍ ثقافيا?ٍ وإعلاميا?ٍ لذلك الغزو العسكري المتصاعد ضد استقلال أمتنا ووجودها.
وبقدر ما هي مهمة القراءة الموضوعية لمفاعيل هذه التحولات الجارية من حولنا على حاضرنا ومستقبلنا? فإن ما لا يقل عنها أهمية هو أن نسعى لإدراك دورنا وأثرنا في حصولها لا من باب التفاخر والتباهي? كما يظن البعض? وإنما لإدراك عناصر القوة التي مكنتنا من الفعل والتأثير والتغيير لكي نحصنها ونطورها لمواجهة الآتي من الأيام والتطورات? وللانتقال من إستراتيجية تقاوم الأعداء وتتوخى هزيمتهم وإحباط مشاريعهم? إلى إستراتيجية بناء النصر لمجتمعاتنا وأمتنا? فهزيمة العدو في موقع أو جولة لا تعني بالضرورة انتصارنا? بل أن تلكؤنا في بناء مقومات الانتصار الداخلي على كل صعيد سياسي واقتصادي وثقافي وتربوي واجتماعي سيكون الثغرة التي سينفذ منها أعداؤنا المهزومون لاستعادة المبادرة وإلحاق الهزيمة بنا? وهي ثغرات نعرفها جميعا?ٍ? وفي كل أقطارنا? خصوصا?ٍ حين كنا نجد أنفسنا ننتقل بسرعة من موقع الانتصار إلى موقع الهزيمة? ومن بروج التفاؤل والأمل إلى أوحال الإحباط والتشاؤم.
ألم تتراجع حلاوة النصر بقيام أول وحدة عربية معاصرة بين مصر وسوريا أمام مرارة الانفصال الذي وقع في مثل هذه الأيام قبل 49 عاما?ٍ وما خلفه من تداعياته? ألم تخبو بهجة النصر في حرب تشرين المجيدة عام 1973 أمام خيبة المعاهدات المنفردة التي أخرجت الدولة الكبرى من الصراع مع العدو في محاولة لإخراج الصراع نفسه عن مساره الصحيح كصراع وجود لا مجرد صراع على أرض هنا أو حدود هناك? ألم يتحول بلد بحجم العراق ودوره ومكانته التي كان يعتز بها كل عربي إلى حطام متناثر تتلاعب به مخططات الأعداء وتسعى لاستخدامه كممر لمشاريعهم الشرق أوسطية.
لقد تعمدت التذكير بمثل هذه الاستدراكات اليوم? لأننا أمام تحولات إيجابية كبرى تشهدها المنطقة ومعها العالم فنسعى لصوغ الإستراتيجية الأسلم للاستفادة منها من جهة? ونتنبه في الوقت ذاته إلى أن معركتنا ما زالت مستمرة? وأن الأيام الآتية حبلى بمفاجآت وتطورات قد لا تكون في مجملها إيجابية إذا لم نحسن الإعداد لمواجهتها.
وسأحاول هنا القيام بعرض موجز لأبرز عناوين هذه التحولات الكبرى? على الصعد الدولية والإقليمية? لإطلاق حوار شامل بينكم? كما على مستوى الأمة بأسرها? فننا