ذ لك الثـــوب الــذي
كعادتي تماما?ٍ? وعند كل منعطف قاس للخيبة يباغت مسيرة حزني? أركض إلى الأسواق? أبحث عن التخفيضات في الملابس الباهظة ? عن أي شيء?ُ بوسعه أن يغلـ?ف?ِ كآبتي ليمنح?ِ عقلي جواز مرور مزيف إلى الفراغ والتلاشي .
أتجول?ْ برفقة قائمة من الأحزان لا تخفيضات عليها? أتتني هكذا.. وحدها دون طلب مني ولا حتى إذن ? برفقة خدمة التوصيل المجاني حتى شغاف القلب وحتى آخر شريان للفرح ما يزال يكافح من أجل البقاء.
أتصفح الواجهات الزجاجية الباذخة? أبحث فيها عن شيء يناسب مقاس حزني الذي غـدا ثخينا?ٍ? يخطر في بالي أنه علي??ِ أن أبحث في المتاجر المتخصصة بالمقاسات المنتفخة ? فأرداف هذا الحزن كما أكتافه تكاد تصبح في مقاس ثلاثة أشخاص معا?ٍ .
تطالعني بنظرات فضولية نساء خشبيات واقفات بوضعيات استعراضية على تلك الواجهات وقد سلطت الأضواء من الأعلى عليهن يرتدين أثوابا?ٍ بحلة الفرح والجمال ? تسألني إحداهن بفضول هامسة بصوت لا تدركه أذن غير أذني : ما بك? فأتلافى النظر إليها مجددا?ٍ لئلا يباغـتني هوس الأوجاع المتناثرة في قلبي, وأبادلها حديثا يسمعه كل من حولي ناعتا?ٍ إياي بالجنون .
يسرقني فستان جميل ترتديه امرأة خشبية سوداء بملامح ناعمة? وشعر معقوف إلى الأعلى? مصنوع من الساتان والمخمل? تلك الأقمشة التي تمنح جسدي شعورا?ٍ خالصا?ٍ بأنوثة طاغية أحب أن أجاهر بها نفسي? وأن احتفل بها سرا?ٍ بيني وبين امرأة أخرى تشبهني تماما?ٍ? تقف ساخرة مني في كل مرة .
ثوب أحمر صارخ اللون كغضبي? حوافه مطرزة بخيوط ذهبية باذخة تبدو كمن يتحدى ساعة الصفر لحدث ما.. حدث استثنائي جدا?ٍ في حياة لا شيء استثنائي فيها إلا مقاس حزنها..
يأسرني الثوب بأناقة جماله? أحاول أن أشيح النظر عنه فيأبى انصرافي? يتحداني ? يتحدى شجاعتي الهاربة مني? يجبرني على الانشغال به? أعيد عيني إليه خلسة عن نفسي? وأسرق منه نظرة أخرى أحاول أن أجعلها تبدو كنظرة وداع? إلا أنها تعاندني فلا تبدو كذلك? بل تظهر لي كمن يرحب بقدوم شخص عزيز.
لا بأس .. لا بد وأن حزني يستحق أحيانا?ٍ أن أغافله بحدث ما? وأن أتجاهل صراخه في قلبي .
ألقي نظرة عابرة على السعر فيتوقف قلبي? أعيد النظر ثانية لعل خطأ?ٍ ما يعلن ظهوره في قراءتي فلا يعلن .. السعر مرتفع جدا?ٍ? ولم أضع في حسباني أن اشتري ثوبا?ٍ للفرح بثمن كهذا? أنا التي تضن??ْ علي المناسبات بمرور عابر? أحاول ثانية أن أنتزع نفسي من أمامه? وأنتشل عيني من على الحواف المطرزة? إلا أن زواياه تغمز لي? تخبرني بأنني أستحق أحيانا?ٍ? ولأسباب غير مفهومة تماما?ٍ? رفاهية المخمل? والساتان? وغواية اللون الأحمر المطرز بورود ذهبية تسترق النظر إلي فيفوح أريج غيها حتى آخر السوق .
افتح حقيبتي? أعد??ْ النقود التي في حوزتي? هي كل ما أملكه هذا الشهر? وهي أيضا?ٍ على قدر السعر المطلوب تماما?ٍ? لفرح?ُ مزيف?ُ بي رغبة تكتسح قلبي اكتساحا?ٍ لشرائه? وكأنما فصل السعر تفصيلا?ٍ على مقاس النقود التي في حوزتي .
أدخل إلى المتجر? ودون أي تردد كان يتملكني قبيل دقائق من دخولي فقط? أتجه إلى البائع? أطلب منه الثوب الذي على الواجهة? فيفاجئني بتوجهه إلى مكان آخر? ليحضر لي من مكان ما في المتجر نفس الثوب الذي طلبته? إنما بمقاس أكبر جعله يفقد أناقة أنوثته الطاغية .. أنظر إلى عينيه مباشرة وأعيد طلبي مصر?ة على كل تفاصيله :
أريد الثوب الذي على الواجهة .
فيخبرني وعيناه تنطقان بالدهشة: عفوا?ٍ اعتقدت أنك تريدينه لك? سأحضر لك نفس المقاس الذي على الواجهة .. أعيد النظر إليه وقد كاد الغضب يفجر عروق رقبتي : قلت لك ذاك الذي في الواجهة ولا شيء غيره? ولا حتى مثله.
يبدو الامتعاض واضحا?ٍ على وجه الرجل? ويحاول إفهامي ثانية بأنه سيأتيني بنفس الثوب? وذات المقاس الذي ترتديه المرأة الخشبية السوداء التي تقف على الواجهة ساخرة من حزني? معتقدا?ٍ أن بي مس?ا?ٍ ما يعيق فهمي لما يقصد? ويغادرني لينتشله بسرعة عائدا?ٍ به إلي, فــ?ْأفهمه بأني أعلم أن هذا الثوب هو نسخة طبق الأصل عن ذاك? إلا أنني أريد الأصل? ولا أريد النسخة.. أريد ما على الواجهة? وتحت الأضواء? وفوق المرأة الخشبية السوداء.
كأني بنفسي أنتقم من النظرة الساخرة في عينيها بتعريتها من ثوب الفرح? كأني أنتقم من تفاصيل الجسد الخشبي الشهي الذي لا تكوره الدهون, ولا الكيلوغرامات الزائدة? ولا يبدو كمستودع للحوم الفاسدة التي منها تفوح رائحة العرق? وتنوء بتفاصيل ثنيات دهنية مترهلة تبدو كدرجات سلم ينزل بي إلى حضيض اليأس .
يتجه البائع وقد بدا الغضب واضحا?ٍ على ملامحه إلى الواجهة? لينزل المرأة الخشبية من عليائها? وأتجاهل غضبه تماما?ٍ كأنني لا ألمح آثاره ترتسم فوق الملامح السمراء لرجل لا يستطيع أن يفهم ما بي? وما الذي أغضبني عندما أحضر ذلك المقاس الضخم? فأنا الآن معنية فقط بأمر غضبي وخيبتي? من غيري يحاول رشوة الفرح بفستان ينتظر يوما?ٍ