على جناحي ذبابة
تطن في رأسك أفكار كثيرة? مشاريع مقالات? رؤى تستدعي التركيز? هذه ليلة تجل?ُ أكيد? تحتاج إلى الهدوء كي تبدأ.
ستحاول إسكات كل الضوضاء داخلك? كل المزعجات الصارخة? ستخرس كل هم يشوش عليك? ستحاول طرد كل المقبضات بعيدا?ٍ كي تصفو? ستهش كل مفسدات التفكير? ستتخلص من الأولاد وأمهم? ستغلق الخطب الذي يخطب في التلفاز كل نشرة أخبار? ستفعل ما بوسعك لحماية صفوك من أي اختراق? ولتوفير أجواء مواتية.
تبدأ الكتابة فتطن ذبابة? أنت في حالة صفاء لا تريد الاشتباك مع ذبابة طارئة? دعها تطير? ولتدعيم حالة تساميك ستتقمص روح نورسية? كان بديع الزمان لا يقتل ذبابة? وفي سجنه وفر له حبلا?ٍ خاصا?ٍ للإقامة? كان يشعر بحضور مؤنس للذباب? ليس بسبب الوحدة والوحشة في السجن? هي حالة فيض صوفية يشعر معها المرء بالتوازن والتناغم والانسجام والتصالح مع كل الوجود خارجه? تنعقد بين الإنسان والكون والكائنات ألفة عميقة? تجمعهم صلات وصلوات? تواصل خاص وثيق.
لا بأس دعها تعيش ليلتها كما تحب? مرحة متقافزة? هي الأخرى لها مشروعها الليلة? أنت رجل ديمقراطي واسع النظر? كيف تضيق وتختنق بحشرة ضئيلة.
يستبد بك الضيق أكثر فيلوح لك النورسي مدافعا عن حق الذبابة في الوجود والتحليق وممارسة الألاعيب المزعجة? في هذه اللحظات بالغة الحساسية? تحاول التناسي ومواصلة دور المتسامي? كابتا?ٍ حنقك? محاولا?ٍ فرض مزيد من السيطرة على أعصابك الآخذة في الانفلات.
الذبابة تتشيطن أكثر? تتقصد إزعاجك تكثف تحليقاتها بنشاط غير معهود كما لو أنها أعدت نفسها تماما?ٍ لهذه المهمة.
هي الآن داخل رأسك مربكة عقلك محتلة تفكيرك بالكامل وهاأنت تلاحقها بنظرات حاقدة وقد أوشكت على الإنفجار تواصل شغبها غير آبهة مالئة الغرفة طنينا?ٍ بغيضا?ٍ غير معهود.
الرجل الطيب يبدأ التخلي عن مثالياته? من الحمق التفلسف في موقف كهذا? تبني موقف “النورسي” يحتاج لاختبار الذباب التركي? الذبابة العثمانية صاحبة تاريخ عريق? تحكمه تقاليد إمبراطورية ما أظنها بهذا الانفلات? كان ذبابا?ٍ ملهما?ٍ بالتأكيد رفيع المستوى أليف ومؤنس ولو شهد بديع الزمان احتفالية التنغيص هذه لتفنن في سحقها بكل تأكيد.
أنا والذبابة الآن.. لا مشاريع سوى الإجهاز عليها? يستيقظ قاتل الذباب ليذب عن سكينته المستلبة وليعيد الاعتبار لسيد الغرفة الكبير.
المسألة ليست سهلة على رجل بدأ ليلته بذلك الفيض من التسامح والصفاء? ولكي يصير قاتلا?ٍ يحتاج إلى تبرير- فارق في أخلاق القتل- لتقل هي وقفت في طريقك? هي تحدتك وسيعزز صاحبك من بعيد موقفك بتذكر سحق الرئيس أوباما لذبابة اعترضته ذات حوار وهو ما جعله عرضه لنقد كثير.
هي اقتحمتك? انتهكت خصوصيتك? اعتدت على هدأتك? أفسدت تأملاتك? أحدثت في رأسك فوضى مدمرة? تجاوزت حدود اللياقة والأدب? ما الذي تفعله? في وقت متأخر كهذا? ما الذي يجعلها تتسكع في ليل رجل غريب يتهيأ لاستقبال الإلهامات.
ليست زائرا?ٍ يتمتع بحضور مشروع? لا قوانين تحمي حقها كطنان منغص لا حصانة من أي نوع? هي حشرة حقها أن ت?ْزاح بسهولة ويسر من وجه الوجود وبضربة م?قشـ?ة? استدعت اللحظة منطق قتلة البشر ممن لا يتمتعون بحساسية أو وخز ضمير? ممن يقتلون بدم بارد.
تطور الموقف وتعقد أكثر? كانت الذبابة قدري تلك الليلة? ملهمتي الكبير? درسي الطنان.
كان امتحانا?ٍ عصيبا?ٍ أنضجتني فيه ذبابه سمعتها تصرخ هازئة وقد رأتني ألو?ح في وجهها بالمقشة:إن كان بإمكانك التخلص من كل ما يزعجك على هذا النحو دائما?ٍ لكان في موتي عزاء على جدار غرفتك? كم من أمور تزعجك? كم من بشر يقض?ون مضجعك? كم من فساد?ُ يضغط عليك? كم من فوضى تتقاذفك? كم من خطابات تسمم حياتك? كم من صور شائهة تسكنك? كم من مزعجات?ُ تكتنفك وتحيط بك وتمسك بخناقك? كم من صخب مدمر يتلف أعصابك.
أنت لا تملك التخلص من كثير مما تكره بذات الطريقة التي تتعامل بها مع ذبابة?ُ ضعيفة غير ممنـ?عة.
أنت الآن تقف مختبرا?ٍ عبء القوة إزاء ما يبدو ضعيفا?ٍ يمكن شطبه كمثير تعب وجالب هم? أنت الآن في مواجهة ضعفك الخاص? في لحظة استقواء محتقر تعلن فيه القوة عن نفسها بعيدا?ٍ عن تحدياتها الحقيقة تتوجه نحو أحقر النقاط وتلك أمارة ضعف.
تبدو القوة عين الضعف حين تتجه صوب الأضعف? أنت لا تملك القدرة على إسكات وإخراس كل المنغصات التي تشرخ حياتك? لا تملك أن تغير من هذا الواقع الفاسد الذي يدهسك بأقدام بليدة? لا تملك أن تهش هذه السياسات التي تسحلك وتسحق كرامتك وتهدر آدميتك وتطلق في رأسك طواحين الجنون.
أدركت أن لا حق لي في قتل ذبابة? شعرت بالعار والخجل ما الذي يجعلني قويا?ٍ إلى هذه الدرجة? ألأنها حشرة ضعيفة? قد?ر لها أن تزاحمني في ذات الحيز? بدا صوتها طنين الحقيقة الذي أريد التخلص منه? وتراءى لي قدر الذبابة متربصا?ٍ بي على امتداد الفضاء.
كم نتعايش مع الإكراهات التي تغتالنا ليل نهار? كم نساكن القهر والفقر? وكم نواري شعورنا بالضعف والجبن والتضاؤل والانكماش? نؤجل طاقاتنا في كل مرة? نخنق قوانا? نهرب من ا