دراسة نقدية لـ ” اعتقال الغابة في زجاجة “
الكتابة عند القاص أنيس الرافعي تبلغ درجة قصوى من التجريب ?وهو لا ينبني ?كحال كتابات قصصية مجايلة ?على تكسير بنيات الكتابة انسجاما مع موجة التجديد وركوب موج التحديث الإبداعي? بل إن التجريب عنده واع بمقاصده وبآليات الكتابة أيضا ?وهي آليات طيعة في يده يصرفها أنى أراد يشكل عبرها آفاقا مختلفة لتلقي عمله ? تحفز القارئ على الاجتهاد في البحث عن الإمكانيات القرائية المتاحة وعلى التأمل أيضا.
وليس من المبالغة في شيء?القول إن المجموعة القصصية" اعتقال الغابة في زجاجة" تمارس تمنعا خاصا ضد القراءة النقدية (التقليدية ) وضد القراءة المتسرعة ?تلك التي ترمي إلى تقرير دلالة خطية واحدة أو إدراك متعة لحظية آنية ? فقصصها الثلاثة عشر تجاوز هذا النوع من التلقي المتعدد عشاقه ?إلى البحث عن أفق نخبوي تمارس عليه الغواية المستفزة وتتحدى أدواته التأويلية و آلياته القائمة على تصنيف الأعمال ضمن خانات محددة سلفا : جيد / رديء ?مطبق لقواعد السرد / غير مطبق لها .
تحدي أدوات الرؤية النقدية ( التقليدية) ?غاية مضمرة عند الرافعي لا يصرح بها ?بيد أنها ترشح في كل بنية من بنيات النص المخاتلة?وكأننا أمام لوحة إرشادية ?تجعل من كل قراءة نقدية محتملة مجردة من سلاح الحكم على العمل?إذ أقصى ما يمكن أن يصل إليه التلقي الواعي هنا ?هو ممارسة هيرمونيطيقا ممدة للعلامات النصية ?وهو يتماهى مع تصور ناقد مجدد هو "غراهام هو" حين عرف النقد أنه " استطالة ذكية للنص الأدبي " .
إننا إذن أمام عمل إبداعي يتخذ من التجريب ( الكتابة ضد الأسلوب السائد)عنصرا حاسما في ممارسة المخاتلة على قارئه وناقده أيضا ?المخاتلة التي تنبعث من الشكل والبنية والدلالة ?وتلعب فيها المناصات والمقتبسات والإحالات دورا أساسا ?إلى درجة التشويش على القارئ الذي يسعى عابثا في نظم روابط منطقية صارمة للقبض على المعنى.
1 _النصوص الموازية المخاتلة.
التجريب في كثير من الكتابات الإبداعية راهن على تغيير في الأشكال والبنيات?حتى إن كثيرا من الأعمال السردية ( التجريبية ) تأسست على التبديل في ترتيب العتبات النصية ظنا أن ذلك وحده قمين بإدراج المكتوب في خانة الأعمال الحداثية التجريبية?وهو ما يخالف فلسفة التجريب ذاته?الذي ينبغي أن يشمل العلاقات الجدلية بين البنية والدلالة ?هذه العلاقة تبلغ درجة قصوى من التوتر في اعتقال الغابة في زجاجة .توتر مبني على الخروج القصدي عن الوظيفة المرجعية التي تجمع العنوان بمتنه.
أ_العنوان :
أولى علامات التوتر يؤشر عليها عنوان المجموعة ذاته : " اعتقال الغابة في زجاجة "فمن يمارس الاعتقال يمتلك سلطة فوضت له قانونا ?ومن ي?ْعت?ِقل يكون قد ارتكب جرما معينا ?يفضي به إلى الاعتقال والحبس.
على مستوى القراءة الخطية ( الخارج سياقية) يبدو هذا التفسير منطقيا ومطمئنا?بيد أنه يصطدم بطبيعة المعتقل ومكان الاعتقال ? فالمعتقل هنا " الغابة " ومكانه " الزجاجة " .ولعل تتبع البناء التركيبي والأسلوبي للعنوان أعلاه كفيل بإضاءة بعض من دلالته وكشف أولى خيوط المخاتلة فيه.
تركيبيا :العنوان جملة اسمية مندرجة ضمن نسق الجملة المحايد?حيث يتقدم المبتدأ ( اعتقال ) يتبعه الخبر الذي جاء شبه جملة ( في زجاجة) هذا النسق المحايد نحويا ?وظف على سبيل المجاز لا الحقيقة بلاغة وأسلوبا ?لانفراط عقد المناسبة بين المسند والمسند إليه ?ويدعى هذا التوتر بين مكونات التركيب في الأدبيات النقدية الحديثة انزياحا,فمكان الاعتقال( الزجاجة) غير مناسب هنا لحجم المعتقل(الغابة) .والقارئ هنا يدرك أن تلك الدوال تتجاوز معناها الحرفي إلى آخر مختف تحت إهاب النص .
يذهب الأستاذ لؤي حمزة عباس في تقديمه للطبعة الثانية من المجموعة ?إلى أن العنوان الذي" يعتقل الغابة في زجاجة لا ينفصل انفصالا كليا عن إرث القص القصير" ?مقارنا بين عنوان المجموعة ?قيد المقاربة ?وقصة إذغار آلا ن بو " رسالة وجدت في قنينة " معتبرا أن العنوان يشير إلى الممارسة القصصية ذاتها (فالنص القصصي?على قصره واكتفائه? غابة لا تنتهي عند حدود الكتابة ) ( تقديم المجموعة ص 13 ) .
إن الغابة في العنوان إذن تعادل الكتابة القصصية واعتقال القصة تكسير لألفة هذا الجنس الطليق?لكن هذا التفسير الذي ينطلق من الشكل الكتابي أساسا لحد دلالته ?يمكن أن يمدد إلى أفق أرحب بالتبئير على الدلالة ا