منهج علمي جميل لمعالجة الثقافة التراثية
لفتت نظري في موقع الفيس بوك? اجابة جميلة للمهندس سبأ طاهر الصليحي على سؤال توجه به أحدهم اليه حول قصة أصحاب الفيل. وكانت الاجابة? كما سنرى بعد قليل? معالجة علمية بمنهج رفيع لموضوع تراثي حساس في العادة? ونموذج ينبغي أن يحتذى في معالجة مثل هذه المواضيع. ولتعميم الفائدة أنقل هنا نص الاجابة التي جاءت كما يلي:
“الأخ جمال أشكر ثقتك وثقة من نصحك بي : إنها تشعرني بالخجل وتضعني في موقف من يوشك أن يخي?ب ظنكما. أما عن فارق العمر بيننا فلن يقربني ذلك من زمن أصحاب الفيل مهما كان .. هههه 🙂 .. وكما قلت لك ليس هذا مجالي ولكني أستطيع التفكير معك أو الحديث عن المنهجية التي تناسب الموضوع.
مصادر الموضوع هي:
1- التاريخ والآثار
2- التاريخ الديني
3- القصص الشعبي (هل هناك مصادر أخرى?)
أما عناصر الموضوع وأحداثه كما تقترحها المصادر فهي كما يلي:
1- اضطهاد الملك الحميري ذي نواس ملك اليمن لبعض رعاياه بسبب اعتناقهم المسيحية وإحراقهم أحياء ?ٍ في أخاديد أنشئت للغرض
2- غيرة ملك الحبشة المسيحي وامبراطور روما لهذه الحادثة وقرار توجيه جيش للانتقام
3- سقوط اليمن تحت الحكم الحبشي وأبرهة ملكا?ٍ وقائدا?ٍ للاحتلال
4- تأهيل صنعاء كمركز للمسيحية في محيط الجزيرة الوثني ببناء كنيسة كبيرة تسميها المصادر (القليس)
5- قرار أبرهة إزالة أكبر مركز ديني منافس في الجزيرة وهي كعبة مكة
6- توجه أبرهة بجيش كبير مجهز بفيل أو فيلة لهدم الكعبة ووصول الحملة إلى مكة
7- تبدد وفناء جيش أبرهة بصورة غامضة وفشل حملته في تحقيق هدفها
8- سقوط الحكم الحبشي لليمن واعتلاء الأمير الحميري سيف بن ذي يزن الحكم بدعم فارسي
نقد المصادر المذكورة قد يقود إلى التالي:
1- عدم وجود آثار ذات علاقة مباشرة
2- وجود آثار قليلة ذات علاقة غير مباشرة وهي أخدود نجران وقليس صنعاء المعروف بحسب التراث الشفاهي المتناقل وهو موقع غير منقب وغير مستكشف
3- جل التاريخ المكتوب هو ما يسمى (كتب الاخباريين) وتحتاج رواياته إلى كثير من التمحيص ومن الصعب اخذها بثقة.
4- الإشارة للحادثة في القرآن إجمالية وتقتصر على الإشارة إلى فشل أصحاب الفيل وتدمير الله لهم بحجارة من سجيل عصفت بهم. كما أن الإشارة لحادثة حرق النصارى وردت في القرآن إجمالية أيضا?ٍ وكإدانة لأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين.
5- تفاصيل الحادثتين توردها كتب التفسير معتمدة على المرويات الشفهية ومرويات السيرة والحديث مما قد لا يصمد أمام النقد المنهجي.
6- لا يمكن الاعتداد بالمصدر الثالث وهو القصص الشعبي الذي يستقي من كل المصادر ويضيف ويحذف بحرية ما يفقده الثقة أمام مناهج البحث.
نقاط مهمة:
يمكن في البحث العلمي قبول القرآن كمصدر للمعلومات (كمؤمنين به) أو عدم قبله (كغير مؤمنين به) وعلى أية حال فإن المادة القابلة للنقاش في المرويات تأتي من خارج النص القرآني وهو التفسير والسيرة والروايات.
قد يكون من المهم البحث عن مصادر رومانية أو حبشية لدعم الروايات العربية في هذا الموضوع أو مقابلتها. ومن الوارد وجود مثل تلك المصادر فالقصة تشرك أطرافا?ٍ لها آثارها ومدوناتها.
إن القصة في السياق التاريخي المتصور تبدو قابلة للتصديق وممكنة الوقوع في الظروف وتبعا?ٍ للتفسير المادي المعقول باستثناء بعض التفاصيل التي تتلخص في الأسئلة التالية:
1- هل يعقل أن يخرج أبرهة على رأس حملته لهدم الكعبة?
2- هل كان الفيل أو الفيلة لغرض هدم الكعبة? وهل ذلك أمر عملي?
3- هل من الممكن أن يدمر الجيش بتلك الصورة دون مقاومة كما تذكر الروايات?
4- ما هي الطير الأبابيل وحجارة السجيل التي جعلتهم كعصف مأكول?
يمكن الإجابة على الأسئلة السابقة في التالي:
1- تذكر الروايات أن أبرهة كان قائد الحملة بل أنه كان الناجي الوحيد بعد دمارها وتذكر بعضها مصرعه على مشارف صنعاء عند عودته. وليس من المستبعد أن يكون هو نفسه على رأس حملته إذا كانت الحملة مهمة في نظره لمستقبل مملكته. وعلى أية حال فمن الممكن أن الحملة كانت بقيادة غيره. وهو ما لا يعني أنها لم تجرد أصلا?ٍ. وإذا صح خروج أبرهة على رأس حملته فإن ذلك يؤكد أنها كانت تقصد هدفا?ٍ أبعد مما تقترحه المصادر من هدم الكعبة وتتجاوزه إلى بسط نفوذ مملكته على الجزيرة.
2- إن وجود فيل في الحملة هو ما تجمع عليه الروايات وهو ما أعطاها فرادتها في تلك البيئة وأه?لها لتكون معلما?ٍ للجيش وللحادثة ككل. وهذا أمر غير ممتنع كما يظهر فالجيش حبشي أساسا?ٍ ولا يستبعد أن يكون في قوامه فيلة أ?ْت?ي بها من الحبشة لليمن. ويمكن أن تكون الفيلة جزءا?ٍ من عتاد الجيش الحبشي في تلك الأيام. أما المهمة التي كانت موكلة للفيل فهي هدم الكعبة كما تقترح الروايات ولا يبدو أنها تقترح مهمة له غير ذلك. ويظهر كذلك أن الفيل سيقوم بنطح الكعبة لتنهار تحت وطء نطحاته. إن هذه المهمة ساذجة بعض الشيء. ولا يتصور المرء الاحتياج لتلك الوسيلة لهدم بناء بسيط من الاحجار والطين يمكن لثلاثة أو أربعة جن