صنعاء وإن طال السفر
ماذا يكون شعورك لو قطعت المسافة بين المطار وفندق في وسط الدار البيضاء في ربع ساعة? هذا بالضبط ما حصل لي بين المطار وفندق في وسط العاصمة صنعاء? حين وصلت لهذا البلد لأول مرة عام 2004.
ابتدأت القصة حين كنت أشتغل كمعدة برامج في قناة الحرة من واشنطن? وطلب مني مدير أخبار القناة التوجه إلى السفارة اليمنية لطلب التأشيرة? لأسافر بعد أيام لصنعاء. كانت المناسبة هي ذكرى الوحدة اليمنية? وكان المطلوب هو تصوير برنامج حواري لمناقشة الأوضاع في البلاد بعد خمسة عشر عاما من توقيع الوحدة بين اليمنيين الشمالي والجنوبي. كانت حينها معلوماتي عن اليمن لا تخرج عن نطاق ما أقراه على صفحات بعض الجرائد العربية عن الأوضاع في هذا البلد الملقب بالسعيد? وعن صور لازالت عالقة في مخيلتي لحرب 94 التي تقاتل فيها الإخوة الأعداء من أجل السلطة في بلد من الصعب أن يستأثر فيه طرف واحد بالحكم.
كانت المسافة الفاصلة بين المطار والفندق قطعة من الجحيم? لازلت أذكر كم كنت متوترة وأنا أرى للمرة الأولى في حياتي مسدسا حقيقيا? كان السائق مسلحا? معمما ويرتدي خنجرا للزينة? وكان الانتفاخ الذي يوجد على خذه الأيسر يبدو لي وكأنه ورم يعاني منه المسكين? إلا أنني سرعان ما انتبهت أن الانتفاخ موجود على وجوه كل من مررنا بهم في طريقنا ولم يكن سوى نبتة القات التي يدمن اليمنيون على مضغها «تخزينها» يوميا ابتداء من الظهر وإلى ما بعد العشاء أو ربما الفجر. كانت الطريقة التي يسوق بها السائق توحي أن ثمة كارثة ستحصل أو أننا في مطاردة بوليسية تهدف إلى تخليصي من خاطفي? لم يكن من المعقول أن تكون كل تلك السرعة الجنونية فقط لأصل إلى الفندق وأخلد إلى النوم بعد رحلة استمرت لأكثر من ثمان وأربعين ساعة من واشنطن إلى صنعاء? لكني فهمت بعد ذلك أن من تأثير القات على «المخزنينج أنه يجعلهم يعيشون في حالة من الإثارة في الساعات الأولى من «التخزين».
بدأت ملامح صنعاء تتضح كل يوم أكثر? كل يوم كان يمر كنت أحس أني جزء من هذا المكان? اللهجة التي كانت تبدو لي في البداية صعبة للغاية بدأت أجد فيها مفردات متشابهة مع لهجتي المغربية? والطعام الذي كنت أتعامل معه بحذر أصبح تناوله في مطاعم «الشيباني» الشهيرة متعة ليس بعدها متعة. لازلت أذكر حزني العميق وأنا أرى سيارة نقل من نوع «بيك آب» محملة بخرفان صغيرة أو ربما حملان لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر? كانت مكدسة فوق بعضها البعض بطريقة تثير الشفقة? وعندما سألت الصديق الرائع خالد عمر عن وجهتها أخبرني أنها حملان مخصصة للذبح? حزنت كثيرا? واستغربت كيف يجرؤ الإنسان على ذبح هذه الكائنات البريئة? وهو الشيء الذي لم يفت صديقي أن يذكرني به أياما بعد ذلك وأنا ألتهم طبق «المندي» المفضل لدي? لم تكن قطعة اللحم أستمتع بالتهامها سوى كتف واحد من تلك الحملان الوديعة.
بإمكاني أن أكتب كتابا مستقلا عن الأكل اليمني? الذي توطدت علاقتي به على مدار السنين? حتى إني خلال الأشهر الأولى من حملي? كانت أولى بوادر «الوحم» رغبتي القاتلة في طبق يمني يسمى «الشفوت»? لم يكن هذا الشفوت سوى خبز شبيه بما يعرف عندنا في المغرب بـ«البغرير» سكب عليه خليط من اللبن الرائب والثوم? كانت والدتي تراقب في استغراب صديقتي الشاعرة اليمنية ابتسام المتوكل التي كانت مقيمة في المغرب حينها? والتي جاءت للتو لكسب الثواب حين اتصلت بها وصوتي كله رجاء في أن تتدبر أمرها وتحضر لي «الشفوت»? لازلت أذكر كيف كانت أمي وأخواتي ينظرن إلي وأنا آكل البغرير بنكهة الثوم? بدلا من الزبدة والعسل كما تقتضي ذلك العادة في المغرب.
لم تكن ملامح الدهشة تفارق وجهي في كل يوم كنت أقضيه في هذا البلد? وكانت زيارتي الأولى لليمن قد انحصرت فقط على صنعاء? كنت قد قررت أن أرتدي عباءة سوداء وأضع غطاء على الرأس احتراما لتقاليد البلد? لكن معظم النساء اليمنيات كن يرتدين النقاب? فقررت أن أضع النقاب أيضا في الأماكن التي كان من الممكن أن يكون فيها حضور سيدة «سافرة» أمرا مزعجا.. صنعاء القديمة كانت واحدة من هذه الأماكن.
يقال أن سام بن نوح عليه السلام هو من بنى صنعاء «القديمة»? ويقال أن أرض الطوفان كانت هي صنعاء? كما يقال أن الجامع الكبير الذي تزين صومعته العتيقة سماء صنعاء القديمة قد بني بأمر من الرسول عليه السلام? ويقال ويقال ويقال عن صنعاء? لكن طبعا لا يكفي أن تسمع ما يقال? فلا شيء يعوض عن رؤية صنعاء.. لأنها سحر وفتنة? ولأنه مهما قيل عنها فثمة أشياء لا يمكن وصفها بالكلمات.
كنت قد تعودت على زيارة صنعاء القديمة قبل مغيب الشمس? شاي بالحليب في مقهى «أبو علي» وبعدها يبدأ التيه الجميل وسط الحواري الضيقة التي تنضح بعبق التاريخ? كان حينها صديقي فارس الذي يعشق صنعاء ولا يتوقف عن التغزل فيها وكأنها امرأة فاتنة يراها لأول مرة? كان دليلي في التعرف على هذا المكان الذي ستتوطد علاقتي به كثيرا فيما بعد? مرت السنوات ولم يتغير شيء في صنعاء القديمة سوى شيئين? شيئين فقط جعلاني أدرك هذه ا