«فيينا نهايات القرن»: صورة زاهية لعالم يموت وأخرى قاسية لعالم يولد
ينتهي الكاتب من تسطير الكلمات الأخيرة على الورقة.. يقرأ الصفحة الأخيرة بعناية? ثم يضعها فوق عشرات الصفحات الأخرى? بعناية ايضا?ٍ.. يمسك المخطوطة بين يديه وينظر إليها بإعجاب شديد? يضعها على الطاولة? يتجه نحو النافذة وينظر الى المدينة: ساحة تضج بالحركة والناس? عصر يضج بالحركة والناس? أزقة تضج بالحركة والناس. يعود الى الطاولة ينظر الى المخطوطة من جديد? يتناول ورقة بيضاء وقلما?ٍ? يخط بعض الكلمات وهو يبتسم.. ويبتسم? لكن في عينيه شيئا?ٍ من قلق غامض. يطوي الورقة التي خط? عليها كلماته الأخيرة ثم يسو?ي من هندامه بعض الشيء. ويخرج من الغرفة? فمن المنزل الغارق في صمته? فمن البناية الغارقة في لونها الرمادي. فمن الزقاق. فمن الشارع… ويبدأ جولة في المدينة: فيينا? عند نهايات القرن الماضي? إنها تماما?ٍ كما شاهدها من نافذته? تعبق بالحركة وبالضجيج. لكنه هنا عن قرب لاحظ أن اللونين الرمادي والبني الشاحبين يغلفان كل شيء. ولاحظ أن عيون الناس تبدو على حقيقتها أقل اطمئنانا?ٍ? وأكثر قلقا?ٍ. عيون ذكرته بالعيون الخائفة في لوحات الهولندي بروغل. ولكن لماذا تراه يبتعد: إنها تذكره أيضا?ٍ بعينين رآهما قبل دقائق في مرآة غرفته… وبالعيون التي تملأ صفحات مخطوطته. إنها عيون في فيينا عند نهايات القرن التاسع عشر. يحس الكاتب فجأة بسأم شديد. يعود أدراجه من دون أن يحاول أن يلقي نظرة أخرى على الناس في المدينة? يعود إلى بنايته الرمادية? فشقته الصامتة? فغرفته… من فوره يفتح درجا?ٍ يتناول من الدرج شيئا?ٍ يقربه من صدغه ويطلق الطلقة الأخيرة: في عينيه خوف ورعب… ولكن على شفتيه ابتسامة صفراء.
> إنها فيينا. في الخارج تصخب بالحياة. لكنها حياة موقتة جدا?ٍ. هي بالأحرى حياة نهايات العالم. ربما ألوف الناس الذين كانوا يتجولون في الشوارع والساحات يومها? كانوا ساهين عن واقع أن هناك نهاية ما تقترب? لكن الكت?اب والفنانين لم يكونوا يحدسون بالأمر فقط? بل كانت كتاباتهم وحياتهم وموتهم جزءا?ٍ من ذلك الحدس وقد تحو?ل إلى واقع? ففي فيينا يومها كان يولد القرن العشرون كله. ولأن كل ولادة هي موت يحدث وموت آخر يبدأ سيرورته? كان واضحا?ٍ للكتاب والفنانين أن ولادة القرن الجديد? ولادة الحداثة? هي من يحمل الموت لمدينة ولد كل شيء من رحمها.
> صورة فيينا هذه تمك??ِن كتاب جامع صدر العام 1980 من ان يلتقطها تماما?ٍ. كان عنوانه «فيينا نهاية القرن» وقد نال عليه كاتبه المؤرخ كارل شورسكي جائزة بوليتزر في العام التالي. ويضعنا الكتاب مباشرة في مواجهة تلك الحقبة… ولنقل: في مواجهة حلم الحداثة? أو في مواجهة طفولة القرن التالي? ففي فيينا? في مناخ النهايات? ولد كل ذلك الشيء الكبير الذي سيطلق عليه المؤرخون في ما بعد اسم الحداثة: والحداثة هنا هي الابتكار? بمعنى انه من الصعب أن نقول إن ما كان يولد في رحم تلك المدينة آنذاك? كان يولد من تيارات أو مدارس أخرى في مجالاته الإبداعية? فالإبداع كما ولد في عاصمة الإمبراطورية النمساوية/ الهنغارية? لم يكن نقطة ذروة مثلا?ٍ? في مسيرة ابداعية: كليمت? وشيل? وكوكوشكا والآخرون? لم يكونوا الاستمرار الطبيعي لتيارات فنية سبقتهم? حتى ولو كانوا الركيزة التي على أساسها قامت التيارات الفنية التي لحقتهم. وهذا الذي يمكن أن يقال عن الفن التشكيلي ينطبق كذلك على العمارة وعلى الأدب والشعر والفكر ومجال التحليل النفسي…
> في فيينا في ذلك العصر كان الجديد الأول يكمن في أن كل النتاجات الذهنية (من فكر وفن وأدب) إنما تولدت من فلسفة جديدة ونظرة إلى العالم مختلفة عن كل نظرة سابقة له. من هنا كان من الطبيعي أن يتحقق في حيز فيينا الثقافي ذلك الالتحام الذي حلم به الفلاسفة طويلا?ٍ منذ أرسطو? بين الفنون والآداب والعلوم وشتى ضروب الفكر والعمران.. تحقق الالتحام عبر نظرة جماعية إلى العالم? وفلسفة تنظر إلى الإنسان? مرة أخرى? في ارتباطه بالمدينة كمكان وبالانعطافة بين القرنين كزمان. في هذا المعنى يمكننا أن نقول بأن ما تحدث عنه هيغل مطولا?ٍ حول ارتباط المواطن الإغريقي (في أثينا وأسبارطة خاصة) بالمدينة وبعمرانها وفنونها? كارتباط بمثل أعلى يغي?ب قلق الموت عن الذهن? هذا الأمر يحقق ما يبدو شديد الشبه به? ولو فقط على صعيد علاقة المثقفين بالمدينة. ففي فيينا? كانت المدينة بشموخها وغموضها. بميتافيزيقيتها وعاديتها? بإنسانها اللاهي وإنسانها القلق? كانت هي العالم الصغير الذي شكل لفئة مميزة من البشر مرجعية?ٍ وربما مثلا?ٍ أعلى. وذلك الارتباط الحتمي للمنتوج الثقافي بالمدينة كان هو الذي أعطى لفيينا نهايات القرن التاسع عشر? ذلك الطابع الفريد.
> اذا كانت مسرحيات هوفمنشتال? وروايات شتيفان تسفايغ? وقصص شنيتزلر? وابتكار فرويد للتحليل النفسي. وكتابات ورثة فرويد وحوارييه… اذا كانت كلها قد أمضت في لحظة أو في أخرى في تعرية الإنسان من ثوب السعادة الوهمي الذي ارتداه في غفلة عن حقيقته? فإن اللوحات التي راح ثلاثي فيينا (كليمت