بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني
٢– الشرط الاقتصادي والرفاه المعيشي.
تعددت مستويات وأساليب الخطاب السياسي البريطاني، الموجه إلى يهود العالم، لدعوتهم وتشجيعهم على مغادرة بلدانهم، والاستيطان في فلسطين، نظرا لتعدد واختلاف مستويات المخاطبين، ثقافيا وفكريا واجتماعيا و…. إلخ، الأمر الذي اقتضى إنتاج خطابات ذات منطلقات وأساليب متنوعة، وهدف واحد، من أجل إقناع أكبر عدد ممكن من اليهود، سواء من خلال توظيف ممكنات الخطاب الديني، واستغلال البعد العاطفي والنفسي، ودغدغة مشاعر التدين، بحلم الخلاص في أرض الميعاد، أو من خلال حشد مدلولات الخطاب العنصري القومي، واستنهاض حلم “الأنا” اليهودية، بإقامة وطن قومي لليهود، يجمعهم – من شتاتهم – على رقعة جغرافية واحدة، ورغم تداخل تلك المنطلقات – الديني والقومي والسياسي – إلا إنها تلتقي على هدف واحد، وبالإضافة إلى ما سبق، كان هناك المنطلق الاقتصادي، الذي وظفته الخطابات الإمبريالية، لتحفيز اليهود على سرعة الاستجابة، والفوز بما تعدهم به، من صور الرفاه والعيش الرغيد، على أرض فلسطين، خاصة وأن بريطانيا – بالتعاون مع مختلف المنظمات اليهودية والصهيونية – قد عملت على بناء الكثير من المستوطنات، وتجهيز بنيتها التحتية والفوقية، لاستيعاب المستوطنين الوافدين باستمرار.
ربما أمكن القول إن الدافع الاقتصادي المعيشي، كان الإغراء الأقوى حضورا، في تحفيز الذات اليهودية – المتفانية في حب المال – على تحمل عبء ومشقة وتداعيات، احتلال واستيطان أرض فلسطين، خاصة وأن انتظام العنصر اليهودي الوظيفي، في كيان سياسي خاص مستقل، سيمنحه حق استقلال وحصانة الملكية المالية، بخلاف ما كان عليه وضعه، في معظم ممالك أوروبا، فهو في تموضعه الوجودي، لا يعدو كونه وأمواله وأولاده، جزءا من ممتلكات الملك الخاصة، وهو في دوره الوظيفي، ليس أكثر من أداة لامتصاص دماء الشعوب، وتحويلها إلى آلاف القطع الذهبية في خزينة الملك، وغالبا ما كان يعاقب – بسبب جرائمه – بمصادرة أمواله وأولاده، لصالح خزينة الملك، ولذلك كان مشروع إقامة دولة مستقلة لليهود، يعني تحقيق الاستقرار المالي، وارتفاع مستويات نمو ثروة المرابي اليهودي، بالإضافة إلى تمكين المؤسسات المالية اليهودية العالمية، بممارسة المزيد من السيطرة والتحكم، بالاقتصاد العالمي، علاوة على تحويل الشعوب النامية، بكل خيراتها وثرواتها المعدنية والنفطية والبشرية، إلى سيولة مالية ونقدية، تغذي أرصدة مؤسسات المال اليهودية.
لم تكن فلسطين مجرد “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، بل كانت الحاضنة المثلى، لتحقيق حلم السيطرة المالية الاقتصادية، وبالتالي تحقيق الهيمنة السياسية، وبسط النفوذ الاستعماري اليهودي/ الإسرائيلي، على منطقة الصراع والثروات إقليميا، ثم فرض السيطرة المطلقة، على الشعوب العربية والإسلامية، وسلبها كل مقومات القوة والنهوض، ولذلك سعت دويلة الكيان الإسرائيلي – بدعم غربي – إلى بناء اقتصاد قوي، وانتهاج مسار تنموي نهضوي متصاعد، من خلال تسخير كل إمكاناتها وقدراتها، لسرقة ونهب واستغلال خيرات وثروات الشعب الفلسطيني، من ناحية، والاستئثار بخيرات وثروات ومقدرات، الشعوب النامية المستضعفة، من ناحية ثانية.
ولكن يبدو أن أسطورة اقتصاد إسرائيل، لا تختلف عن أسطورة جيشها، فكلاهما مبني على وهم القوة والتهويل، في أحضان ماكينة الإعلام الإمبريالي، التي عجزت عن ترميم هشاشتهما، ومواراة انهيارهما المخزي، الذي شاهده، وشهده العالم أجمع، بداية من عملية “طوفان الأقصى”، ثم تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي بلغ شهره السادس، حيث بدا وكأن القوة الاقتصادية والقوة العسكرية، تخوضان سباقا محموما، في ميدان الانهيار والسقوط، وقد نتج عن سقوط الشرط الاقتصادي، من مراكز التصنيف المتقدمة عالميا، تصاعد نسبة العجز في الميزان التجاري والميزان الحكومي، وارتفاع نسبة التضخم، وزيادة الدين العام والفوائد، وارتفاع نسبة البطالة، وتسريح العمالة، وارتفاع كلفة الاستيراد، وبالتالي ارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة، وبغياب حلم الرفاه ورغد العيش، تضاءلت إمكانية بقاء هذا الكيان الوظيفي الاستعماري، خاصة بعد ما مُني به من خسائر اقتصادية فادحة.
أصبحت حكومة الكيان الصهيوني المحتل، قاب قوسين أو أدنى، من إعلان انهيارها الاقتصادي، وعجزها عن الاستمرار في البقاء، ناهيك عن الاستمرار في خوض الحرب، رغم ضخامة الدعم المالي المقدم لها، من قوى الاستكبار الإمبريالية (أمريكاوأخواتها)، إلا أن فاتورة خسائرها التراكمية، المتصاعدة بشكل مهول، قد قضت على حلم الرفاه المعيشي ورغد العيش، كما قضت على كل مقومات الهيمنة، واحتمالات استمرار الوجود الاستعماري، فمن نفقات الحرب المتزايدة يوميا، وتكاليف استدعاء نحو 360 ألفا، من أفراد جيش الاحتياط، إلى فاتورة عمليات استهداف المواقع العسكرية الاستراتيجية، من قبل محور الجهاد والمقاومة في لبنان، بالإضافة إلى الخسائر الباهظة، الناتجة عن استهداف قوى محور الجهاد والمقاومة في سوريا والعراق، وكذلك نفقات نقل أكثر من 130 ألف مستوطن إسرائيلي، من الحدود الشمالية، مع حزب الله في لبنان، إلى الداخل المحتل.
كما أن عمليات الجيش اليمني، وضرباته البرية والبحرية، في مسارها التصاعدي، قد أصابت الاقتصاد الإسرائيلي في مقتل، وفرضت عليه حصارا خانقا، بعدم مرور سفنه، أو السفن المرتبطة به، أو المتوجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة، من باب المندب أو البحرين العربي والأحمر، ثم منعها من العبور من الرجاء الصالح، في القرن الأفريقي، وها هو قرار المنع اليمني، يصل في مرحلته الرابعة، إلى البحر الأبيض المتوسط، والتهديد باستهداف سفن وشركات النقل، التي تتعامل مع هذا الكيان الإجرامي، وتقوم بتزويده بالسلاح والغذاء.
وبذلك تراجعت نسبة التعاملات التجارية، مع ارتفاع الأسعار، والغلاء المعيشي العام، وزيادة الطلب على المواد الغذائية، وارتفاع كلفة المستورد منها، إلى أكثر من الضعف، وغير ذلك من مظاهر تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي حملت معها بوادر الهجرة العكسية للمستوطنين.
إذن.. بعدما فقد الكيان الصهيوني الإسرائيلي، شرط الوجود الاقتصادي، ترى ماذا بقي في جعبة رهاناته، من أجل البقاء، وما مدى قدرة الإنعاش الاقتصادي، الأمريكي الأوروبي، على إمداده بقوة الصمود والاستمرار، خاصة وأن اقتصادات تلك الدول الإمبريالية، نفسها تعاني من أزمات اقتصادية تراكمية حادة؟