تظلل الأمة العربية والإسلامية ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، النبي العربي الأميِّ الكريم، المبعوث رحمة للعالمين، والمؤيد بالقرآن العظيم والحق المبين، ورسوله الأمين إلى الناس أجمعين بالرحمة المهداة والنعمة المجزاة، ليخرجهم بتعاليم السماء من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن التيه إلى الرشاد، ومن الجور إلى العدل، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، وقد أراد عليه السلام أن تكون أمته خير الأمم وأوسطها، وأفضل الناس وأعدلها، وأكرم الخلق وأنبلها، وأسمى الأمم وأعزها، تمضى على طريق الحق وتلتزم الصراط المستقيم، وتنأى بنفسها عن الباطل، وتحيد عن سبيل الشيطان الرجيم.
يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته أن تكون قويةً أبيةً، موحدة الكلمة، متراصة الصف، عزيزةَ النفس، متينة البنيان، مرفوعة الرأس مهابة الجانب، شامخة الجبين لا تذل، واثقة الخطى لا تتعثر، يُشار إليها بالبنان أنها أمة سيد الخلق ورسول رب العالمين، التي يباهي بها ويفخر، ويتيه بها ويسعد، ويمد إليها يده لتنهض، ويدعو الله ربه أن يحفظها ويكلأها، وأن يرعاها ويحميها، وأن يكثر سوداها النبيل وعددها الجليل، وأن يقدمها معه إلى الحوض وأن يسقيها بيده من الكوثر، وأن يجتاز بها الصراط إلى الجنة، فلا يسقط منهم أحد، ولا يحول بينه وبينهم سدٌ.
قد لا يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد من أمته أن تحيي يوم مولده العظيم بالأناشيد والأهازيج، والمدائح والوشائح، وبتوزيع الحلوى والسكاكر، وتبادل التهاني والمباركات، وتعطيل الأعمال وإغلاق المحال، بقدر ما يريد أن تتمسك بتعاليمه، وأن تأخذ بتوجيهاته، وتسير على هديه وتحيي سنته، وتعظم أوامره، وتتجنب محاذيره وتلتزم نواهيه، لتكون جديرةً برسالته وقديرةً ببعثته، وإلا فإنه سيقول لمن خالف أوامره ونأى بنفسه عن سنته وغيَّرَ منهجه “سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي”.
فهل نسي المحتفلون بمولده، والمحتفون برسالته، المنتسبون إليه والرافعون لواءه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد دعاهم وأوصاهم، وحضهم وذكرهم بالتواد والتراحم، وأن ينصروا بعضهم ويوحدوا صفهم، وأن يكونوا رحماء فيما بينهم وأشداء على أعداهم، وألا يوالوا عدواً لهم وألا يتخلوا عن أنفسهم، وأن يكونوا أوفياء مع من لجأ إليهم واحتمى بهم، وألا يقبلوا بإهانة بعضهم والإساءة إلى أمتهم، وألا يقصروا في نجدة بعضهم وإغاثة أهلهم، وألا يتخلوا عن نصرة الضعيف وإنصاف المظلوم، وإشباع الجائع وتأمين الخائف، وألا يقصروا في مساعدة العاني وفك إسار الأسير، وألا يسكتوا عن تدنيس مقدساتهم والإساءة إلى معتقداتهم.
ألم يقرأوا حديثه عليه السلام “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، فعلموا أننا جميعاً جسدٌ واحدٌ، لا فرق بيننا، ولا اختلاف يطغى علينا، وأن أصل العلاقة التي تجمعنا هي الرحمة والمودة، والألفة والمحبة، والتضامن والتكافل، والتعاون والتكامل، فلا حروب بيننا ولا نزاعاتٍ، ولا خلافاتٍ ولا صراعاتٍ، ولا تخلي عن بعضنا ولا نكوص عن واجباتنا، وأن مثلنا كمثل الجسد الواحد نتضامن إذا جرحنا، ونحزن إذا تألمنا، ونهب لنجدة بعضنا إذا اعتدي علينا أو أسيئ إلينا، ولا نترك أحدنا فريسة لعدونا، ولا ندعه وحيداً في المواجهة، يستفرد به العدو وينال منه، ويستغل انشغال أمته عنه وتخليها عن نصرته.
أليست فلسطين جزءاً أصيلاً من هذه الأمة المحمدية العظيمة، وركناً رئيساً من بنيانها العتيد، وأليست القدس عاصمتها، وفيها أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأنها آيةٌ في كتاب الله عز وجل تتلى إلى يوم القيامة، فهي الأرض التي أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، ومنها عرج إلى السماوات العلى.
أليست هي الأرض المقدسة المباركة التي فتحها واستلم مفاتيحها خليفته عليه السلام الفاروق عمر بن الخطاب، وهي الأرض التي جمع لتحريرها السلطان صلاح الدين الأيوبي أجناد المسلمين من كل بقاع الدنيا لتحريرها من الأسر، واستعادتها من الصليبين، الذين استباحوها ودماء المسلمين، ودنسوها والمسجد الأقصى المبارك، وعاثوا فيها سنين طويلة فساداً في الأرض وإثخاناً في القتل.
أفلا يرى العرب والمسلمون في ذكرى مولد رسولهم الكريم ونبيهم العظيم أن فلسطين تغتصب وتنتهك، وتدنس وتهود، وتغير معالمها وتبدل، ويقتل أهلها ويطرد سكانها، ويعتقل رجالها ويوأد أطفالها، ويستفرد العدو بها مطمئناً إلى أن أمتها غافلة نائمة، وأنها سادرة تائهة، قد ضلت الطريق، وانحرفت عن المسار، وخانت الأمانة، وتخلت عن الواجب، وانقلبت عن الحق وانكفأت إلى الباطل، فهادنت العدو ومالئته، واعترفت به وعاهدته، وفتحت له أبوابها ورحبت به، وطبعت معه وساندته، وصافحت يده الملوثة بدماء أبنائها، واستضافت قادته المجرمين الذين يتباهون بقتلنا، ويتنافسون في سفك دمائنا، ويتبارون في انتهاك حرماتنا وتدنيس مقدساتنا.
فهل نسي المنتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من أصول الإسلام وقواعد الإيمان وشروط الوسطية أن ينتصروا لشعبهم المظلوم وأمتهم المكلومة، وأن يبذلوا وسعهم مالاً وجهداً، وكلمةً وفعلاً، وحرباً ومقاومة، سراً وعلناً، وقولاً فصلاً، لاستعادة الحقوق وتحرير البلاد وتطهير المقدسات، وإلا فإن عبادتهم لا ترفع، ونسبتهم لا تصل، وعملهم لا يقبل، واحتفالهم لا يقدر، حتى يصلوا رحمهم، ويتداعى قلبهم وتتنادى أطرافهم للعمل الجاد والسهر المضنى والحمى الغيورة، وبذا يكونون لائقين برسولهم الكريم، وجديرين بالانتساب إليه والاحتفال بمولده، فهل يتدبرون ويعون، أم على قلوبٍ أقفالها فلا يعقلون.