من كابول إلى اسطنبول.. ” الجهاد الأمريكي ” بتوثيق الباحث والسفير عبدالله صبري
شهارة نت – قراءة رئيس التحرير أحمد حمادة:
كثيرة هي الكتب التي وثقت جرائم الولايات المتحدة بحق شعوب المنطقة وإرهابها للدول التي تعارض سياساتها، ولكن كتاب “الجهاد الأمريكي.. من كابول إلى اسطنبول” لمؤلفه الباحث عبدالله علي صبري سفير الجمهورية اليمنية في دمشق، والصادر مؤخراً عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، هو الأشمل و الأكثر عمقاً ودراسة وبحثاً ومعلومات حول هذه الظاهرة.
فقد تكبد الباحث الكثير من العناء والمشقة لجمع المعلومات والأدلة والوثائق لينتج مؤلفه الغني بكل ما يؤيد فكرته، رابطاً الأحداث بالمنطقة والعالم، ومؤكداً بالشواهد والأرقام كيف قامت أميركا باختراع التنظيمات الإرهابية مثل “القاعدة وداعش والنصرة” وأخواتها لتنشر فوضاها الهدامة في منطقتنا تحديداً، وفي البلدان التي تستهدفها ثانياً بطول العالم وعرضه، والتي أسماها إعلامها المضلل بـ “الفوضى الخلاقة”.
يقول الباحث: كأنما نعيش كابوساً جماعياً ونحن نصحو كل يوم على أخبار دامية، الفاعل الرئيس فيها تنظيمات إرهابية متطرفة، تنشر التكفير وثقافة الكراهية داخل مجتمعاتنا، وتحشد طاقات الشباب تحت راية “الجهاد” القتالي، ثم تزعم أنها تنتصر للإسلام بالقتل، والتوحش، وإقصاء الآخر.
ويتساءل صبري كيف نشأ هذا التطرف المنسوب زوراً وبهتاناً إلى الإسلام والشريعة المحمدية؟، ولماذا أمكن لثلة من الأصوليين والراديكاليين أن يؤسسوا جماعات إرهابية عابرة للحدود؟ وما هي المناخات السياسية الدولية والإقليمية التي ساعدت على صناعة هذا الوحش وذاك التوحش، وجعلت منه أداة طيعة في خدمة الأجندة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حتى وهي تحشد وتجند مختلف الإمكانات لتخوض غمار ما يسمى بالحرب على الإرهاب؟
ويواصل الباحث طرح أسئلته واستفساراته الهامة قائلاً: ما قصة ما سمي بـ “الجهاد” في أفغانستان، وكيف نشأت طالبان والقاعدة في كابول؟ ولماذا غدا “المجاهدون العرب” مجرد إرهابيين في نظر العالم والأجهزة المخابراتية التي جندتهم في الحرب مع الاتحاد السوفييتي السابق؟ وما العوامل التي ساعدت على تناسل تنظيم “قاعدة الجهاد” وانتشاره في كثير من دول العالم؟ وما الذي استجد حتى تراجع التنظيم نسبياً، لصالح تنظيم جديد يدعى “داعش”؟ وما هي “داعش”، وكيف قامت “دولتها” الخرافية المزعومة في غفلة من الزمن؟ وكيف سقطت، وبأي ثمن؟.
ويجيب بعين القارئ والباحث بأن قائمة الأسئلة تطول، وتطول معها السطور والصفحات التي تحاول البحث في تفكيك المشهد الدرامي والدراماتيكي في العالم العربي والإسلامي، الذي تصاعدت حدته منذ قيام ما يسمى بثورات الشباب والربيع العربي، التي بفشلها في معظم الدول، عاشت الأمة العربية ولا تزال مخاضاً مخضباً بكارثة عنيفة تهدد الحدود والوجود، وتشي بمستقبل قاتم ما لم يفتح الله لأمتنا باباً من أبواب رحمته.
في محاولة البحث عن إجابات شافية للبعض من الأسئلة آنفة الذكر، تتفتح أمام الباحث فجوة جديدة، وكلما ظن أنه قد ردم واحدة منها، انفتحت أبواب ونوافذ أخرى، وتناثرت على جنبات البحث أسلاك شائكة، وانتصبت حقول ألغام يصعب القفز فوقها من دون تفكيكها وسبر أغوارها واستكناه خفاياها.
ويستطرد الباحث كلامه معدداً هذه الألغام، ومنها علاقة تركيا بالإرهاب في سورية، فهذه الدولة التي قدمت تجربة اقتصادية لافتة، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، مع بداية العشرية الأولى للقرن الحادي والعشرين، تموضعت على نحو معاكس خلال العشرية الثانية، حين ركبت مع الإخوان المسلمين موجة “الربيع العربي”، وتصرف زعيمها أردوغان كخليفة عثماني، وغدت إسطنبول قبلة لقيادات الإخوان، وطريقاً لـ “الجهاد” وللتنظيمات الإرهابية التي تداعت على سورية ومارست على مختلف أراضيها كل الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية.
وارتباطاً بهذا السرد والتحليل فقد تلفعت أنقرة بما يسمى “الربيع العربي”، فوجدت نفسها بعد حين على شفا خريفها الخاص، حين ارتد الإرهاب على حدودها برسم “داعش” وبعض الفصائل الكردية، وبعد أن كانت تنعم بالسلام والاستقرار في ظل سياسة تصفير المشاكل، خرجت تركيا على قواعد الاشتباك، فدخلت في مواجهة حرجة مع روسيا، ولم تتمكن من تطبيع الوضع مع موسكو إلا بعد تنازلات مؤلمة في أكثر من ملف.
ويتابع لقد انكفأت تركيا نسبياً، وانشغلت كثيراً بحماية حدودها مع سورية والعراق، وارتدت مفاعيل تدخلها في شؤون غيرها على الداخل، ويؤكد الباحث أن سورية بالمقابل التي عاشت أكثر من عشر سنوات دامية، وهي تصارع الإرهاب، والمؤامرة الدولية على أمنها واقتصادها وكل كيانها، تكاد اليوم أن تخرج من أزمتها رافعة الرأس، وذلك بفضل صمود شعبها وحنكة قيادتها وبسالة جيشها، ودعم روسيا وأصدقائها في محور المقاومة “إيران وحزب الله”.
وفي ثنايا مؤلفه الهام يوثق الباحث صبري كيف ركبت التنظيمات الإرهابية موجة “الربيع العربي”، فتقاطرت عناصرها المسلحة أفواجاً صوب سورية مستفيدة من التسهيلات التركية على حدود البلدين، ومستندة إلى تمويل إقليمي عربي وغطاء سياسي أمريكي، فتكونت عوامل قيام تنظيم “داعش” الذي استولت عناصره على مساحة كبيرة من سورية والعراق، وانخرطت في صراع مع بقية الفصائل المسلحة، التي تناسلت تحت مسميات مختلفة، وإن اتفقت على الأفكار المتطرفة نفسها، المستندة إلى الفكر التكفيري.
وهنا يؤكد الباحث أن سورية تمكنت من أن تحقق انتصارات عسكرية متوالية على “داعش” وأخواتها، بالموازاة مع انتصارات مماثلة للجيش العراقي، مما أدى في النهاية إلى سقوط “دولة الخرافة”، لكن دون أن يعني ذلك تلاشي تحدي الإرهاب وتنظيماته، فالانتصار العسكري والأمني يظل مؤقتاً ما لم يتم رفده بمعالجات فكرية، تلاحق جذور التكفير والإرهاب، وتعمل على استئصاله من خلال فكر مستنير، ورؤية عقلانية لمفهوم الجهاد، الذي تمنطقته مختلف الجماعات الإرهابية المعاصرة من “طالبان إلى القاعدة وداعش”.
وإسهاماً في التجديد، يدعو الباحث صبري، السفير والصحفي ورئيس التحرير السابق لعدة صحف يمنية ورئيس اتحاد الإعلاميين اليمنيين بين عامي 2016 -2020، إلى إعمال مفهوم “جهاد التنمية” كإطار نظري وعملاني للنهضة المنشودة، والتي لا يمكن إنجازها إلا من خلال طفرة تنموية تستنفر معها كل الجهود والإمكانات المتاحة المادية والبشرية، في عملية استراتيجية شاملة ومدروسة، تعتمد في الأساس على إيمان القائمين عليها بأن التنمية الاقتصادية في العالم العربي هي الطريق المستقيم إلى مجتمع الكفاية والعدالة.
وهنا يستشهد الباحث بالكثير من الأمم التي تمكنت من فعل ذلك وإنجاز تجارب ملهمة في التنمية والتقدم بعد مخاضات عسيرة من الحروب والأزمات، ومؤكداً في نهاية المطاف بأننا غير معزولين عن العالم، وبإمكاننا أن نتجاوز كل ما نعيشه كما تجاوزه غيرنا، وهذه تجربة اليابان خير شاهد ومثلها ماليزيا وغيرها الكثير من البلدان، فهل ننهض من جديد؟ ولاسيما أن النهوض ليس مستحيلاً، ويكفي أن نوجه الطاقات المتطرفة إلى مضمار السلام والتنمية، ونتجاوز بذلك عقدة السؤال القديم – الجديد: لماذا تخلف العرب وتقدم غيرهم؟
نقلا عن صحيفة الثورة السورية