كثيرة هي الآيات القرآنية التي حملت طابع الأوامر الإلهية المخصوصة للذين آمنوا، بأن يكونوا على هيئة موصوفة ومخصوصة بكيفية معينة، تحدد وضعيتهم، وتوضح أبعاد مكانتهم، وترسم ملامح صورتهم، حسب متغيرات الوضع، واختلاف المواقف، ومقتضيات الحال والواقع الاجتماعي المعيش؛ ففي مجتمع ساد فيه الظلم والمجاملات، جاء الأمر الإلهي بقوله تعالى:- “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين….. “، متصدرا بوجوب اختصاصهم بإقامة العدل، وإقامة الشهادة بالحق لله وحده، والحذر من المحاباة والميل والمجاملات، مهما كانت المبررات والأعذار، وحين يسود الكذب والنفاق في المجتمع، يأتي الأمر الإلهي بالمعالجة الفورية الناجحة، لهذا الداء الاجتماعي الخطير، في قوله تعالى:- “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”، وفي هذه الآيات ونظائرها، يحدد الله تبارك وتعالى، خصلة أخلاقية، لتكون ثيمة مهيمنة في سياق التوجيهات التربوية الإلهية، ومسار الهوية الإيمانية الكاملة، التي يجب على يجب على المجتمع المسلم المؤمن، أن يكون عليها ويتحلى بها، ليحافظ على كينونته وكمال إيمانه.
لكن أمره تعالى – في آخر سورة الصف – للذين آمنوا، أن يكونوا أنصار الله، فيه توجيه إلهي صريح، بوجوب الانضواء تحت هذا المسمى، وضرورة اكتساب هذه الهوية الإيمانية، الشاملة لصفات الإيمان المؤدية إلى كماله، إذ يقول الله تعالى:- “يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين” .
إن تصدير النداء للذين آمنوا بالأمر الإلهي “كونوا”، يقتضي ضرورة التزامهم صفات وسلوكيات وأعمال، تدل على تحقق وجودهم في الكينونة، التي أُمروا أن يكونوا عليها، سواء أن يكونوا ربانيين، أي على درجة عالية من التربية الدينية والتهذيب وكمال الأخلاق ورسوخ العلم، أو أن يكونوا قوامين بالقسط، أي قائمين بأمر العدل والحق، في أقوالهم وأفعالهم، سلوكا واعتقادا، أو أن يكونوا مع الصادقين، أي ملتزمين بالصدق، وملازمين له في كل شئون حياتهم، وهكذا الأمر في بقية الآيات، التي حملت سياق الأمر الإلهي للذين آمنوا، بالتزام كينونة معينة، تميزهم بصفات محددة عن سواهم، وتلزمهم درجة معينة من السلوك والاعتقاد.
وفي قوله تعالى:- “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ”، اقتضى التموضع الجديد، المطلوب من الذين آمنوا أن يكونوه، بيان هذا المقام وتوضيح وسائل بلوغه، وكيفية تحققه، وكل ذلك مبهم في هذا السياق، وكأن لسان حال الذين آمنوا يتساءل، كيف نكون أنصار الله، فكان الجواب على خلاف مقتضى العادة أو المتوقع، ليخرج من افتراض بيان كيفية، إلى تموضع بيان حالة قائمة على حضور علاقة المشابهة في الذهن الجمعي، في قوله تعالى:- “كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ….” وهنا يرسم الحواريون حالة متقدمة، وصورة مشابهة قائمة على التماثل، بينهم وبين الذين أمنوا، الذين يجب أن يكونوا أنصار الله، كما كان الحواريون قبلهم، وكونهم كانوا أنصار الله، فقد كانوا أنصار لدينه، وأنصاراً لنبيه عيسى عليه السلام، وكذلك أنتم أيها المؤمنين، يجب أن تكونوا أنصاراً للنبي محمد ولرسالته ولله ولدينه، في سلوكه سبيل الله وتوجهه إليه وتوحيده، وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى.
ومناسبة صدور ذلك القول عن عيسى عليه السلام، إنه لما أحسَّ من بني إسرائيل الكفر، بما يدعوهم إليه من وحدانية الله تعالى، وإخلاص العبادة له، والتوجه إليه لا شريك ولا ند له، لجأ إلى طلب النصرة على القيام بأمر هذا الدين، فقال:- “من أنصاري إلى الله”، فأجابه الحواريون بقولهم:- “قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آَمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِـمُون”، وكان ذلك إعلاناً منهم بمفارقة قومهم نسبةً وانتماءً وكينونةً، وهجرتهم إلى مقام الشرف الأسمى، والانتماء إلى الله، في مقام الإضافة الاسمية، وإبرازاً لهويتهم الجديدة، القائمة على الإيمان بالله، وما يترتب عليه من جهاد وتضحيات، لم تمنعهم من الإصرار على المضي في نصرة الله ورسوله ودينه، معلنين تسليمهم المطلق، كما طلبوا من عيسى أن يشهد لهم بذلك، وطلبوا من الله تعالى أن يكتبهم من الشاهدين، بكل ما تحمله شهادتهم من معان واسعة.
وقد جاء بيان الكيفية التي يكون بها الذين آمنوا، أنصار الله، في الآيات التي سبقت هذه الآية، حيث يقول تعالى مخاطباً الذين آمنوا على سبيل العرض والتحضيض والتحفيز، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ”، وقد تساءلت خواطرهم شوقاً عن تلك التجارة، التي سيكون لها هذا
الثمن الكبير والفوز العظيم، والربح الذي لا يبلغه شيء، فقال تعالى:- “تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَـمُونَ”، وبذلك تنالون الفوز العظيم، وتنالون الفلاح في الدنيا والآخرة، والبشارات التي لا نهاية لها، وبهذا تصبحون أنصار الله وأنصار نبيه ودينه، مثلما كان قبلكم الحواريون أنصار الله، وكل ما ورد في حق عيسى وقومه، ونصرة الحواريين له، ينطبق على الرسول محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، وعلى قومه، وعلى الأوس والخزرج، الذين كانوا أنصاره وحوارييه، حيث قال لهم عندما لاقوه في العقبة، “أخرجوا إلي إثني عشر رجلاً منكم – يكونوا كفلاء على قومهم – كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم”، وقد اختصهم الله تعالى بهذا المسمى، من بين الذين آمنوا، قال تعالى:- “وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ”، وقال تعالى:- “لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْـمُهَاجِرِينَ وَالْأنصار”، ومدح الأنصار بما بذلوا وأعطوا، مثنياً على تجارتهم الرابحة مع الله، بقوله تعالى:- “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ”، وقوله جل وعلا:- “وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْـمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ”، وقال تعالى مادحاً أخلاقهم العالية ونفوسهم الكريمة، “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ” .
وحين ذهب الناس بالغنائم والشاة والبعير، ذهب الأنصار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان في ذلك رضى لهم، وشرف انتماء بلغوا به مقام الاختصاص، بأن يكونوا دون سواهم أنصار الله وأنصار رسوله وأنصار دينه، وقد خلّد الله تعالى ذلك المقام لهم قرآناً يُتلى إلى يوم الدين.
وهاهم اليوم أحفاد الأنصار في اليمن، يسيرون على ذات النهج الإيماني، تحت قيادة علم الهدى السيد القائد المجاهد عبدالملك بدرالدين الحوثي يحفظه الله، ويسطرون أروع الملاحم البطولية، وأعظم التضحيات، في مواجهة أعتى طواغيت الأرض، وأقسى فراعنة العصر، في تحالفهم الإجرامي العدواني، الهادف إلى استعباد الناس، وتدشين مشروع التطبيع والصهينة، والخضوع المطلق لسيطرة وسلطة اليهود والنصارى، الذين لم يقف في وجههم سوى المشروع القرآني، بوصفه المنطلق الإيماني الجهادي الحقيقي، في مسيرة الجهاد والتحرر، على مستوى محور الجهاد والمقاومة في المنطقة والعالم.