عندما تكون سارية الخيمة عاليةٌ وعمادها متينة وأوتادُها قوية وجلودُها سميكة وأوبارها كثيفة، وبناتها مهرةٌ، ونُصَّابُها أصحاب تجربة وأهل خبرة، وحراسها فرسانٌ ذوو شهامةٍ ونخوة، لا تهزها الرياح، ولا تسقطها العواصف، ولا تجرفها السيول، ولا تحرقها النار، ولا يشعر سكانها بالبرد، ولا يشكو من يأوي إليها من القيظ، ولا يجوع من لجأ إليها، بل يأمنُ من دخلها، وينام ملء جفنيه من قضى ليله فيها، ويشبع ملء ماضغيه من أكل فيها، ويستمتع السامرون فيها، وترتفع عقيرتهم بأغاني وأهازيج شعبية، وتطرب آذانهم بجميل الشعر وبديع النثر، ويرفع سيدها رأسه فيها عالياً، يباهي كل من حوله وينظر إليه أنه السيد المطاع والبطل المهاب، صاحب الكلمة الأولى واليد العليا، الحصيف الرأي السديد القول، الحكم الفصل إذا أمر أو نهى.
تلك هي خيمة المقاومة الإسلامية في لبنان، العالية العماد، السامقة السارية، العميقة الأوتاد، الوارفة الظلال، المتينة البناء، المطلة على السماء، القوية السلاح، الحصينة الجدران، المحمية بالرجال، والمصانة بالوعد، والمخيفة بالرد، التي لا يقوى العدو على المساس بها أو الاعتداء إليها، ولا يستطيع هدمها أو إنزال ساريتها، ولا يقوى على التهديد بتقويضها أو التلويح بحرقها، بل إنه يخشى الاقتراب منها أو التحريض عليها، وينأى بنفسه عن تهديد أصحابها أو ترويع أهلها، ويبرأ من كل عملٍ أو تصريحٍ يُساءُ فهمه أو يخطئ البعض في تفسيره، فهو يخشى المواجهة ويخاف من ردة الفعل، ويحسب ألف حسابٍ لمن أمر ببنائها وأكد على بقائها.
إنها الخيمة الرابضة على أرض جنوب لبنان، والمنصوبة فوق ترابه الوطني، والمتشامخة في سمائه بكبرياء، والمتعالية على حدوده بعزةٍ، التي بنتها المقاومة الإسلامية في وضح النهار، وتحدت بها العدو الإسرائيلي أن يمسها أو يحاول الاقتراب منها، فهي مشادةٌ على أرضهم السيادية، وداخل حدود بلادهم الوطنية، وبإرادة أبنائهم الأحرار، فلا يحق للعدو أن يتدخل فيها أو أن يعترض عليها، وعليه أن يكف عن الشكوى والأنين، ورفع الصوت والجأر بالصراخ، وطلب الوساطة ومناشدة الآخرين، فإن هذه الخيمة ما نصبت لتقوض، وما رفع عمادها لتسقط، وما بنتها المقاومة لتفككها، مهما هدد العدو وتوعد، أو أرغى وأزبد.
أدرك العدو الإسرائيلي أنه وقع في مأزقٍ خطيرٍ، وبات محشوراً في زاويةٍ ضيقةٍ، وبدا كفأرٍ يتخبط في المصيدة، وقد حارت به السبل وضاقت عليه الدنيا، وعجزت قوته عن تحقيق أهدافه وإرهاب أعدائه، وبات لزاماً عليه أن يجد حلاً ينقذ به نفسه، ويمكنه من حفظ ماء وجهه والنزول من على الشجرة التي صعد إليها بغباء، ولجأ إليها بغطرسةٍ وكبرياء، حتى بات ينشد حلاً من كل الوسطاء، ويبحث عن طوق النجاة عند كل الفرقاء، فقد غدا كمن يبلع السكين، فلا هو يستطيع إزالة الخيمة بنفسه، ولا يقوى على إجبار المقاومة على تفكيكها، وهو بين المستحيلين حائرٌ، وبين الحلين المعدومين خاسرٌ.
بالمقابل يشعر اللبنانيون بالنشوة والفرح والبهجة والسعادة، وتتشامخ رؤوسهم عزةً وكرامةً، وتعلو أصواتهم تيهاً وفخراً، فقد كشفوا بما قاموا به عجز العدو وأظهروا ضعفه، وأكدوا له ولمن يتحالف معه، أنها أرضهم اللبنانية وسيادتهم الوطنية، وأن أحداً لا يستطيع منعهم من بسط سيادتهم على ترابهم الوطني، فهذا حقهم المشروع الذي تحفظه القوانين وتصونه الشرائع وتؤكد عليه كل المواثيق الدولية، وسيخطئ العدو إن لجأ إلى القوة، واستهان بالمقاومة وغامر، حينها سيكون ثمن المغامرة كبيراً، وسيكون الرد عليها صاعقاً وسريعاً، فقد وعدت المقاومة أنها سترد على أي اعتداء على أرضها، وستواجه العدو بالقوة نفسها.
تلك هي معايير القوة ومعادلات الردع، ومصداقية الرد والوفاء بالوعد، التي بات العدو يدركها ويخشى منها، فلولا القوة التي تملكها المقاومة، والحزم الذي تبديه، والجاهزية التي لا تخفيها، والقدرة لا يشك فيها، لما تمكنت من القيام بما قامت به، فهي تعرف نفسها، وتدرك قدراتها، وتفهم عدوها، وتدرس مواقفه، وقد حددت هدفها ورسمت مسارها، وعلمت يقيناً أن الزمن الذي كان فيه العدو يخيف ويرعب، ويغير ويقصف، ويستخدم ذراعه الطويلة في تأديب الدول العربية وتدمير مرافقها ومنشأتها، وتسكت عنه وتصمت، وتعجز عن الرد عليه وتخاف من التهديد، قد ولى وأصبح من الماضي، وبات يحسب كل خطواته بدقةٍ، ويخشى من تصريحات قادته ومسؤوليه، التي قد تورطه وتكلفه وتسيء إليه ولا تنفعه.
ما أجمل الحق عندما تصونه القوة وتحفظه الكرامة، وتردع عنه الأطماع السيوفُ، وتصد عنه الأعداء المنعةُ، وتعلي أسواره الإرادة، ولولاها لوأد العدو الحق كما قتل في تاريخه رسل الحق وأنبياء السلام، ولطغوا في الأرض وبغوا وأكثروا فيها الفساد، لكن المقاومة العزيزة قالت كلمتها، وأعلنت موقفها، وقالت له ولحلفائه معه، إنها ليست مجرد خيمةً، وليست بيتاً من الشعر نصبته، بل هي عنوان للسيادة ورمز للوطن، وهي رايةٌ وعلمٌ، وجبينٌ وشامةٌ، وقدسٌ وحرمٌ، فألف تحيةٍ لصناع الكرامة وحراس المجد.