النظام العالمي الجديد.. ماذا بعد السقوط الأخلاقي والأيديولوجي
بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن الأخلاق هي نظرية ممارسة، أولا وقبل كل شيئ، ولا يمكن فصلها عن الواقع المعاش، كونها الرافعة الأساس في صياغته وتنظيمه، وتقديم صورته في أبهى مثالياتها ونموذجيتها.
كما أن السياسة ليست فقط تلك القوانين والأنظمة والمواد الدستورية، وإنما هي منظومة كاملة، من القيم والمبادئ والثوابت الدينية والوطنية والقومية والإنسانية، التي تعكس طبيعة الحياة الأخلاقية، في سياق الممارسة والتطبيق، فحتى قوانين الثواب والعقاب، هي في تأصيلها الفلسفي، تعبر عن منظومة أخلاقية قيمية، تم تفعيلها في صورة مواد قانونية.
كانت السياسة قديما تتقنع بقناع أخلاقي، في علاقاتها الخارجية، وبلوغ مصالحها الاستعمارية، أي أنها كانت توظف المبادئ الأخلاقية، لخدمة مصالحها ونفوذها، فمن أجل استمرار مصانع الأسلحة في الإنتاج، تعمد تلك الدول إلى جعل دول العالم الثالث، سوقا مفتوحا لها، بإشعال الفتن والصراعات الإثنية والعرقية والمذهبية والطائفية، بالإضافة إلى تشجيع حركات التمرد، تحت مسمى دعم الحريات والديمقراطية، وبذلك تتلقى جميع أطراف الصراع داخليا، الدعم بصفقات الأسلحة الفتاكة المختلفة، من الدول الاستعمارية الكبرى، التي تزعم مساعدة المقموعين بالأسلحة، لانتزاع حرياتهم المسلوبة، والدفاع عن أنفسهم ضد أعدائهم الوجوديين، وهكذا تحظى تلك القوى الاستعمارية، بمزيد من الرفاه الاقتصادي والنفوذ السياسي، الذي يصل إلى فرض الأبوية المطلقة، والتدخل المباشر وغير المباشر، في حياة ومصائر الشعوب المستضعفة.
وفي ذات السياق كانت الأنظمة الاستعمارية السابقة، تحاول تقديم نفسها في صورة مثالية، غاية في التحضر والديمقراطية والعدالة والمساواة والرفاهية، وكان توظيف الذرائع الأخلاقية، في سياق مزاعم حماية الحقوق والحريات، مقبولا إلى حد كبير، لتمرير صفقاتها ومخططاتها الاستعمارية، بحق الشعوب النامية، التي كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكان عذرها – أو ما يمكن اعتباره كذلك – أنها كانت بين أمرين احلاهما مرُّ.
ربما رأت الأنظمة الاستعمارية الحالية، عدم جدوى استمرار التقنع خلف النموذج الأخلاقي، الذي قد يبطئ تحركاتها في المنطقة، ويحد من سرعة تنفيذ مخططاتها ومشاريعها الإمبريالية التسلطية، لذلك لم يتحرج الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب (2017 – 2021م)، من ابتزاز حلفائه آل سعود علنا، وإلزامهم دفع مبالغ مالية باهظة، للخزينة الأمريكية، مقابل الحماية، حيث قال إن الملك السعودي، بدون حماية أمريكا، لا يستطيع الجلوس على عرشه أسبوعا واحدا، وكذلك الحال بالنسبة لبقية ملوك وأمراء الخليج، الذين لم يسلموا من ابتزاز الإدارة الأمريكية، وجنون ترامب المفرط، الذي قادته عنجهيته إلى إعلان خروج أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران، في مخالفة صريحة لقرار مجلس الأمن، الذي يؤكد ضرورة التزام جميع الأطراف بهذا الاتفاق، كما أن ترامب لم يتحرج عن ممارسة التسلط الإمبريالي علنا، عبر سعيه بكل الطرق والوسائل، إلى تنفيذ صفقة القرن، وتفعيلها على أرض الواقع، من خلال حشد أسطول من العملاء، على مستوى الدول والأنظمة، وماكينة إعلامية ضخمة جدا، وجهود دبلوماسية مكثفة، عالية التمثيل والحضور، بقيادة صهره اليهودي (كوشنر)، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الأممية، بشأن رعاية الحقوق والحريات وحق الشعوب في الاستقلال، ليقوم بذلك بمصادرة علنية واضحة، لحق ووجود شعب بأكمله، بكل قبح وصلف وعنجهية، تعكس قبحه الاستعماري الصريح، الذي جسدته سياسته الخارجية، وتدخلاته العسكرية المباشرة، في سوريا والعراق، إلى جانب الجماعات الإرهابية مثل داعش وغيرها، التي قام بإعدادها مسبقا، لتمرير مشاريعه في المنطقة، وما إن استولت على مناطق النفط والثروات، حتى بادر بالتدخل العسكري، ليحل محلها، ويرسلها في مهام أخرى، مقدما لها كافة أشكال الدعم علنا، ليؤكد بذلك طبيعة الدور الاستعماري في المنطقة، القائم على إشعال فتيل الصراعات البينية، وفرض الهيمنة الاستعمارية، والاستيلاء على مناطق الثروات النفطية والمعادن، ونهبها لصالح الخزينة الإمبريالية، وإدخال الشعوب في دوامات الصراعات السياسية والعسكرية والفقر، كما هو الشأن في السودان وليبيا وسوريا واليمن والعراق، انطلاقا من رؤية استعلائية امبريالية يهودية، تبناها ترامب علنا، وصرح في أكثر من مناسبة، بضرورة تقليص عدد سكان العالم، نظرا لعدم كفاية الموارد، وفقا لنظرية الانتخاب، ذات المرجعية اليهودية الصهيونية، والعمل على ذلك بمختلف الوسائل، وأكثرها وحشية وقذارة، من خلال نشر الأوبئة والأمراض، مثل جائحة كورونا، وشن هجمات بيولوجية وكيماوية، وتسريب إشعاعات نووية، وتحفيز الكوارث الطبيعية فيزيائيا، وغير ذلك من الجرائم الوحشية، بحق شعوب العالم، ناهيك عن تصريحات ترامب العنصرية الفجة، التي أحرجت الأنظمة الإمبريالية في مختلف المحافل الدولية، وأثارت استهجان واستنكار معظم الشعوب، ولا ننسى ما قامت به الإدارة الأمريكية في عهد رئيسها الأسبق (أوباما)، حين ورطت المملكة العربية السعودية في حرب اليمن، وحين وصلت صواريخ الردع اليمنية، إلى عمق الضرع الحلوب (أرامكو)، طلبت السعودية من حليفها الأمريكي، التدخل وتقديم الحماية المتفق عليها، سارع ترامب إلى إعلان تنصل أمريكا عن حلفائها، قائلا إن أمريكا لن تخوض حروبا بالوكالة، وإن على السعودية حماية نفسها، وشراء منظومات دفاع جوي أمريكية وفرنسية وروسية، في صفقات قدرت قيمتها بمليارات الدولارات، كبدت الخزينة السعودية والاقتصاد السعودي، الكثير الكثير، حتى شارف على الانهيار، ورغم معالجات التعافي المطروحة، التي دفع فاتورتها الباهظة، الشعب السعودي من لقمة عيشه، وعلى حساب دينه وقيمه وأخلاقه، إلا أن سقوط المجتمع السعودي، في منتجات مشاريع الترفيه السلمانية الصهيونية، لم يحل دون السقوط الاقتصادي الوشيك.
لم تتورع الأنظمة الاستعمارية الحالية، عن ممارسة قبحها وهيمنتها وتسلطها علنا، من خلال ممارسة استراتيجية الصراعات البينية، ودعم الأطراف المتصارعة بالسلاح دون مواربة، قائلة لهم بلسان الحال، فلتشتروا السلاح ولتتقاتلوا فيما بينكم، وإذا ما ظهرت بوادر تهدئة أو صلح أو تسوية، بين تلك الأطراف، سارعت الأمم المتحدة الاستعمارية، ومجلس أمنها الإجرامي، إلى إذكاء نار الصراعات من جديد، لتستمر اللعبة ويستمر نهب الثروات ويستمر المخطط الشيطاني، في سحق شعوب المنطقة العربية والإسلامية أولا، ثم بقية الشعوب الأخرى، ليتحقق البقاء للعرق اليهودي النقي، حسب طروحات النظرية الصهيونية.
لم يتوقف مسلسل السقوط الإمبريالي، على الجانب الأخلاقي، الذي كانت دعوة الرئيس الأمريكي الحالي (بايدن) إلى المثلية، آخر تطورات مشاهد انحطاطه، وما يترتب عليه من تنصل عن المسئوليات المتصلة به، فقد سبقه سقوط المنظومة القيمية كاملة، رغم حضورها الذي لم يتجاوز الأدبيات الأممية، وتلى ذلك سقوط الأيديولوجيا الإمبريالية، التي انعكست في مجمل النتاج الفكري الإبداعي الإنساني الحياتي الشامل، وكانت في الوقت نفسه المرتكز الأساس الذي بنيت عليه الحياة في جميع مجالاتها، فالأيديولوجيا الرأسمالية مثلا، قدمت نفسها على أساس كونها منظومة من القيم الثقافية والروحية والأخلاقية، تتبنى – في إطار اقتصادي وثقافي واجتماعي – مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، بين مختلف الشعوب والثقافات والعرقيات، ومبدأ حرية الفكر وحرية التعبير وحرية السوق، من أجل تحقيق تجربة إنسانية متكاملة، فكريا وحضاريا واقتصاديا وتنمويا وثقافيا، وتشجيع التنوع والاختلاف، ورعاية وحماية الأقليات، في الجانب الآخر، تقف الأيديولوجيا الإشتراكية، التي تدعي العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، وترفض الملكية الفردية، لتعارضها مع مبدأ المساواة، كما تؤكد على المسئولية الجمعية، والتخطيط المركزي، وغير ذلك من الأسس الفكرية، التي انعكست ثقافيا واجتماعيا وسلوكيا، لكن النزعة الفلسفية الممزوجة باليوتوبيا، كانت أحد أسباب سقوط الأيديولوجيا الإشتراكية، كما أن الحرية – التي بلغت حد ألوهية القطب الواحد – كانت أحد أسباب سقوط الأيديولوجيا الرأسمالية، ومع تكامل عمليات السقوط الإمبريالي مؤخرا، استبشر الكثير من المفكرين، بعالم متعدد الأقطاب، غير أن الحقيقة تقول غير ذلك، نظرا لغياب المشروع الحضاري الجديد، وكل ما هو موجود على الساحة السياسية، لا يعدو كونه مشروعا واحدا، انصهر في بوتقة الذرائعية النفعية الفجة، وامتزج بإرث هائل من التوحش والإجرام، بالإضافة إلى امتلاكه الخبرات والتقنيات التكنولوجية المتطورة في عالم الإجرام، لذلك أصبح من المتعذر التمييز بين الإشتراكية والرأسمالية، في الوقت الراهن، نظرا لتماهي الطرفين في الانقلاب على الأيديولوجيا، والتنكر لمنظومة القيم والأخلاق، والتقاء الطرفين على قاعدة المنفعة أولا، لذلك لم تختلف نزعة روسيا القيصرية التسلطية، التي تسعى خلف مصالحها، وفرض قوتها وهيمنتها ونفوذها على المنطقة والعالم، عن نزعة نظيرتها أمريكا الإمبريالية، ولم تعد اشتراكية الصين الشعبية، الساعية لفرض هيمنتها الاقتصادية، لتتربع عرش إمبراطورية السوق العالمي، بعيدة عن رأسمالية أمريكا، الساعية لفرض هيمنتها السياسية، في ذات المسار إلى تجويع وإفقار الشعوب، وما بين تحويل المنطقة سوقا مفتوحة، لإمبراطورية الرأسمال الصينية، وتحويل المنطقة ملكية خاصة، لإمبراطورية النهب والقتل الأمريكية، تبقى صورة مفهوم الاستعمار والهيمنة واحدة.
وعليه يمكن القول إن النظام العالمي الحقيقي، هو تلك اليد الخفية، أو هو ذلك اللوبي الصهيوني، الذي يستخدم الأنظمة الإمبريالية العالمية، كأدوات وظيفية تنفذ مشاريعه ومخططاته في العالم، والمنطقة العربية على وجه الخصوص.
لا أعتقد أن التعويل على انتصار روسيا في أوكرانيا، لإسقاط حلف الناتو وهيمنة القطب الواحد، فيه شيئ من الحكمة، ولا التصفيق لسقوط منظمة الأمم المتحدة، وصعود تحالف البريكس الاقتصادي، أمرا صائبا، لأن الأمر لا يعدو كونه تبادل أدوار، وتغيير الوجوه، بهدف تخدير العقل الجمعي، وتهيئة الشعوب لمرحلة استعمارية جديدة، أشد ضراوة وقبحا وتوحشا مما مضى، وإذا ما سقط (الضرع الحلوب)، من فم راعي البقر الأمريكي، فلن يستقر إلا في فم (جنكيز خان) العصر الحديث، ما يعني استمرار المشروع الإمبريالي الصهيوني، مهما اختلفت صور حامليه، وهنا يقف السؤال المصيري المرعب؛ كيف يمكن تفادي الأسوأ، وهل تنجح رغبة الشعوب المستضعفة في الانعتاق من أغلال أباطرة الاستعمار الجديد؟.