لم يبق مسؤولٌ إسرائيلي على كل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية، إلا وعقب على ما يجري في القدس والضفة الغربية، وكان له رأي واقتراح في أفضل السبل لإخماد الأحداث، وملاحقة المطلوبين، واستئصال شأفة المقاومين، والتصدي لعملياتهم، والضرب بيدٍ من حديدٍ على قادتهم والمحرضين على “العنف”، وضمان سلامة المستوطنين، وتأمين طرقهم وحماية شوارعهم ومرافقهم، والحد من تنامي “أعمال العنف” ومنع انتقالها من منطقة إلى أخرى، أو انزلاقها إلى انتفاضة شاملة يصعب تطويقها والسيطرة عليها.
فقد هالتهم العمليات العسكرية المتنقلة، وأفزعتهم كثرتها، وأقلقهم نجاحها، وقدرة منفذيها على القيام بها والانسحاب من المكان بسهولة، والتواري عن الأنظار ولو لفترةٍ قصيرةٍ، وبثت أسلحتهم النارية، التي لم تعد “كارلو قديمة “أو مسدسات غير فاعلة، بل أصبحت بنادق أوتوماتيكية حديثة، تحمل ذخائر أكثر، وتصل طلقاتها إلى مدياتٍ أبعد، ويمكنها أن تلحق في صفوفهم خسائر أكثر وإصاباتٍ أكثر دقةٍ، ووصف بعضهم ما يجري من أحداثٍ في القدس والضفة الغربية بأنها انتفاضة مسلحة ضد الجيش.
كما أزعجت الأجهزةَ الأمنيةَ العملياتُ الفردية، التي تصفها بعمليات “الذئاب المنفردة”، وتصنفها بأنها خطيرة وصادمة، إذ كشفت عن عجزها عن اكتشافها أو التنبؤ بها، وأظهرت عدم قدرتها على مواجهتها والتصدي لها، أو الحد منها وحصارها، فعناصرها هم الشعب كله، وعامة المواطنين جميعاً، ممن لا يلفتون نظراً أو يثيرون ريبةً، مما يضعف قدرة الأجهزة الأمنية على تمييزهم أو معرفة نواياهم، وبالتالي تحييدهم أو اعتقالهم، ذلك أن سجلات أغلبهم نظيفة، ولم يسبق اعتقالهم أو توجيه اتهاماتٍ لهم، ولا ينتمي كثيرٌ منهم إلى التنظيمات العسكرية والفصائل الفلسطينية الناشطة.
أمام هذا الواقع الذي بات يكبر يوماً بعد آخر، ويزداد خطورةً من منطقة إلى أخرى، وينذر باحتمالات انفجار ثورة أو اندلاع انتفاضة، انبرى المسؤولون الإسرائيليون لمواجهتها والتصدي لها، بل والاشتباك معها وإعلان الحرب عليها، رغم أن العديد من قادة الأجهزة الأمنية، وكبار ضباط الجيش المتقاعدين، يرون أن الأسلوب الذي تتبعه الحكومة في معالجة أحداث الضفة الغربية ستكون له نتائج أكثر سلبية، وسيقود إلى تأجيج الأحداث وتسخين مختلف المناطق، وينصحون لمعالجتها باللجوء إلى السلطة الفلسطينية، ومنحها صلاحياتٍ أوسع، والكف عن إحراجها ومصادرة أدوارها.
وقد وجد عضو الكنيست المتطرف إيتمار بن غفير ضالته في تصاعد العمليات المسلحة في القدس والضفة الغربية، فشهر مسدسه وجاب به في أحياء مدينة القدس ومستوطنات الضفة الغربية، يهدد ويتوعد، ويحرض ويتهم، ويوجد النقد واللوم إلى رئيس حكومة الكيان يائير لابيد ووزير حربه بني غانتس، متهماً إياهم بالعجز عن حماية المستوطنين الذين يتعرضون للقنص والرجم بالحجارة وقنابل المولوتوف، بينما يقف الجيش وعناصر الشرطة عاجزين عن حمايتهم، وغير قادرين على التصدي للشبان الفلسطينيين الذين يهاجمونهم في مراكزهم وعلى نقاط التفتيش ويقتلونهم.
أما العميد مئير إلياهو، فيحذر قبل استلامه رسمياً لمهام عمله الجديد كقائدٍ للحرس الوطني الإسرائيلي، من أن الأحداث الجارية في الضفة الغربية قد تكبر، وليس من المستبعد أن تجر الجيش للقيام بعملية حارس أسوار أخرى، ولهذا فهو يدعو المستوطنين وعامة الإسرائيليين إلى تجنب الاحتكاكات المستفزة مع الفلسطينيين، لأنها قد تقود إلى مواجهة أوسع وأشمل، مع ما يكتنف هذه العمليات من أخطار وخسائر لا يمكن توقعها وتجنبها، وأمام هذه الأخطار المتزايدة، فقد خصصت قيادة الجيش أربع سرايا احتياط من حرس الحدود للعمل تحت قيادة الحرس الوطني.
أما رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد، الذي يعمل بكل السبل الممكنة لتبريد المناطق، وتهدئة الأحداث في القدس والضفة الغربية، وتطمين المستوطنين وتسكين روعهم، ليضمن تفوقه في الانتخابات التشريعية القادمة، فقد وجد نفسه مضطراً للانغماس في معترك التصريحات والتهديدات، فأكد أن جيشه سيتخذ كل الإجراءات المطلوبة، ومعه كامل الصلاحيات اللازمة، لضمان الأمن وتحييد الخطار وتفكيك الخلايا المسلحة، وبدا بذلك منسجماً مع وزير حربه بني غانتس، الآخذ في الطواف على مناطق الاشتباك والتوتر، يتفقدها ويزور جنوده وضباطه الجرحى، مستغلاً جولاته في تهديد المقاومة، وتأكيد قدرة جيشه على ضبط الأوضاع، وأنها مسألة وقتٍ لا أكثر.
لا ينفك المسؤولون الإسرائيليون يهددون ويتوعدون، ويزبدون ويرغون، مستخدمين أشد الكلمات خشونةً وقسوةً، وأكثرها استفزازاً وتحدٍ، ولا يتوقف جيشهم عن عمليات الاجتياح والهدم والتدمير والاعتقال، التي تتخللها عمليات قتلٍ وإطلاق نارٍ على عامة الفلسطينيين، إلا أن جذوة المقاومة تتقد، ونارها تشتعل، وأوراها يلتهب، وشبابها بها يلتحقون أكثر، ويشكلون مجموعاتهم الجديدة وقواهم الصاعدة، التي تتصدى لجيش العدو وتصده، وتباغته وتهاجمه، فلا يقوى على كسر جوزتها أو اقتحام عرين أسودها، الذي بات يكبر ويتسع، وإليه تنتسب أسودٌ جديدةٌ وليوثٌ متمردةٌ.