حالي كحال الكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية، حبست أنفاسي يوم الأحد الماضي خلال مسيرة الأعلام الصهيونية، أتابع التطورات وألاحق المستجدات، وأترقب ما الذي سيحدث خلال اليوم، وسط حالة التحريض والتعبئة والتحشيد الجماهيري، الذي تولى كبره رئيس حكومة الكيان وكبار مسؤوليه، متسائلاً ما إذا كان الإسرائيليون سينفذون وعيدهم، وسيواصلون برنامجهم، وسيمضون في مسيرتهم الاستفزازية العدوانية، وسيحشدون لها أقصى ما يستطيعون، وسيدعون إليها شرائح شعبهم المختلفة للمساهمة الفاعلة والمشاركة الكثيفة، كونها أصبحت تحدياً مباشراً ومجابهةً صريحةً.
أم أنهم سيرهبون المقاومة، وسيخافون من ردة فعلها والوفاء بوعدها، وستتراءى أمامهم مشاهد معركة سيف القدس من العام الماضي، وستعود كوابيس الصواريخ التي سقطت على مدينة القدس وغيرها، فضلاً عن التهديدات الجديدة بوحدة الجبهات وتعددها، وعليه فإنهم سيعدلون عنها كما في العام الفائت وسيلغونها، خوفاً ورهباً، ولن يضعوا أنفسهم وكيانهم في تجربةٍ وخيارٍ صعبٍ.
أو أنهم سيستجيبون للضغوط العربية والدولية، التي دفعت باتجاه تخفيف الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين عموماً، وضد المقدسيين وأحيائهم والمسجد الأقصى المبارك، بالإضافة إلى التحذيرات الأمنية والحسابات السياسية المحلية، التي شعر بها المسؤولون الأمنيون وحذروا حكومة كيانهم منها، ونصحوا رئيسا بتعديل مسارها، وتغيير مخططاتها، وتجنب المرور في الأحياء العربية المقدسية، والامتناع عن دخول باب العامود، والاكتفاء بمسيرةٍ رمزيةٍ ومسارٍ أقصر يوصلهم إلى ساحة البراق “حائط المبكى”.
إلا أن شيئاً مما استعرضت لم يقع، إذ ركب نفتالي بينت رأسه وعاند، وأصر على تنفيذ المسيرة وعدم إلغائها أو تعديل مسارها، ولم يلقِ بالاً إلى كل التحذيرات والمخاوف التي وصلته وانتابته، ولم يأبه بها أو يلتف إليها، كما لم يصغِ إلى النصائح والتوجيهات، ولم يقدر وجاهة رأي الوسطاء وحرصهم على كيانه، وواكب المسيرة بنفسه، وعند انتهائها وجه التحية والتهنئة إلى كل من ساهم فيها وسار معها، واعتبر أن هذا اليوم هو يومٌ إسرائيلي بامتيازٍ، تحققت فيها السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس، واستقل فيها قرارهم، وتبدد خوفهم، وتمكنوا من فرض معادلاتهم الخاصة، وتغيير قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة الفلسطينية في العام الفائت.
رغم مضي أسبوع على المسيرة الكيدية العدوانية الاستفزازية، إلا أن الحديث عنها لم يتوقف، والجدل حولها لم ينتهِ بعد في أوساط الفلسطينيين، ولدى الشعوب العربية والإسلامية المحبة لفلسطين، والتي كانت كما عامة الشعب الفلسطيني تتمنى أن تقوم المقاومة الفلسطينية بالرد على التبجح الإسرائيلي، فتكسر بصواريخها أنفهم، وتجبرهم بقوة النار على إخلاء الشوارع والنزول إلى الملاجئ، وتعلمهم أن القدس خطٌ أحمرٌ، وأن الاعتداء عليها وعلى المسجد الأقصى يعني حرباً إقليميةً شاملةً، يشارك فيها كل المقاومين ومعهم أحرار الأمة جميعاً، المؤمنين بالقدس مدينةً عربيةً، وبالأقصى مسجداً إسلامياً.
صمت المقاومة أحبط الفلسطينيين وأحزن المحبين، وأشعرهم بأن العدو قد كسب الجولة وربح المعركة، وأن المقاومة قد خسرت وانكسرت، وأنها تراجعت وانكفأت، وبدا من الصعب على المؤمنين بعكس ذلك إقناعهم بأن الأمر مغايرٌ لما يعتقدون، وأن الصورة الحقيقية لدى قوى المقاومة مختلفة، فهي مثلهم تتطلع إلى الرد الحاسم والموقف الجريء، وأنها لا تصنع سلاحها لتخزنه ويصدأ، بل لتستخدمه في هذه المعركة وغيرها وينفع، لكنها لا تريد أن يكون سلاحها أعمى، أو قوةً هوجاء غير منظمة وغير معلومٍ مسارها ومآلها ونتيجتها، كما لا تريد أن تمنح العدو فرصة النصر الرخيص والكسب الزائف.
أدركت المقاومة الفلسطينية ومن معها، أن العدو الصهيوني يخطط لمعركةٍ يوجه فيها ضربةً للمقاومة قاسيةً، تتحمل فيها المقاومة مسؤولية البدء والمبادرة، فيتفهم العالم الموقف الإسرائيلي وردة فعله، فينتقم بطريقته، ويبالغ في القصف كعادته، ويحقق أقصى ما يستطيع من الأهداف التي حددها ويتطلع إليها، وهي التي فشل مراتٍ عديدةٍ في تحقيقها، ولعل بعض الأنظمة العربية تعرف النوايا الإسرائيلية وتخشى منها، وربما حمل بعضهم رسائل إلى المقاومة الفلسطينية منه، تحذرها وتنبهها، وتحملها المسؤولية عن الحرب إن اندلعت، وعن الأوضاع إن تدهورت.
المقاومة الفلسطينية ليست عصا غليظة فقط، ولا سلاحاً نارياً وحسب، بل هي عقلٌ سياسي، وفهمٌ استراتيجي، تحسن قراءة العدو وتفهمه، كما تعي عقله وتحيط علماً بمخططاته، ولديها الخبرة الكافية بخبثه ومكره، ودهائه وغدره، وتعرف لغته وتتابع عمله، وقد علمت أنه يجري أكبر مناوراته العسكرية منذ شهر، وأنه في أتم الجاهزية العسكرية، براً وجواً وبحراً، وأنه من السهل عليه أن يحول المناورة إلى مغامرة، والنظرية إلى فعلٍ، وأنه يستغل الفرصة للبحث عن مبررٍ وسببٍ، فكان قرار المقاومة بعدم مناوشته وهو في أوج قوته وقمة جاهزيته، على أن تحتفظ حقاً وصدقاً وفعلاً لا قولاً، بحقها في الرد الحاسم الناجز العملي، في الوقت والزمان المناسبين، حين يستكين العدو ويهدأ، وتفتر همته ويتراجع، وتتوقف مناورته وتنتهي جاهزيته، فالحرب خدعة، والمفاجئة فيها أصلٌ، ومباغتة الخصم وضربه من حيث لا يحتسب أساسٌ في النصر.
المقاومة الفلسطينية تجاوزت بإذن الله سياسة الدفاع عن النفس، وانتقلت من مربع الصد إلى دائرة الهجوم، وهي تتطلع صادقةً إلى معركةٍ حاسمةٍ، تبدأها هي، وتحدد زمانها ومكانها بنفسها، ولا تعطي العدو فرصة تحديد الزمان ولا اختيار المكان، وهي تعتقد أنها والشعب الفلسطيني، والمقاومة العربية عموماً، بلغت من القوة والشدة، ومن العزم والمضاء، لأن تخوض معارك التحرير وحروب العودة، وهو ما يريده الشعب الفلسطيني ويتمناه، ويصبر لأجله ويضحي في سبيله، وقد علم أن مقاومته تراكم القوة وتشكل في وسائلها، فلا يريد أن تجهض قبل أوانها، أو أن تتفتت استعجالاً قبل استحقاقها، وهي تدرك علماً وحكمةً وتجربةً، أن من استعجل الثمر قبل أوانه عوقب بحرمانه، فثقوا في مقاومتكم ولا تشكوا فيها، واعتمدوا بعد الله عز وجل عليها ولا تتخلوا عنها، فإنها قد عقدت نواصي العودة والتحرير، وأعلت رايات النصر والتطهير.