مشاهدُ عزةٍ فلسطينية ومظاهرُ ذلٍ إسرائيلية
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
حفلت الأيام القليلة الماضية في فلسطين المحتلة بعشرات المشاهد التي تنم عن عزة الفلسطينيين وكرامتهم، وعن عُلوِ شأنهم وشهامتهم، وكشفت عن جرأتهم وشجاعتهم، وثقتهم ويقينهم، وإصرارهم وثباتهم، وإقدامهم واندفاعهم، وتضحياتهم وعطاءاتهم، وأظهرت للعالم كله صورتهم الحقيقية، الوضاءة المشرقة، البهية السنية، الصافية النقية، التي تبعث على الفخر والاعتزاز، والتيه والإعجاب، وتضع الشعب الفلسطيني في مقامه الرفيع ومنزلته العالية، ومكانته المتقدمة، التي وصل إليها بقيمه النبيلة، ومقاومته الشريفة، ومواقفه الرائعة، وثباته الكبير، وصموده المنيع، وتحديه المثير، وجرأته اللافتة.
شبابٌ يافعون في مقتبل العمر، أغنياء غير فقراء، أشداء غير ضعفاء، حالمون آملون، واثقون غير محبطين، مؤمنون غير جاحدين، متفائلون غير محبطين، يقررون الانتقام من عدوهم والثأر لشعبهم، ينطلقون من بيوتهم وحدهم ولا أحد معهم يساعدهم أو يدلهم، أو يعينهم ويتعاون معهم، يمضون بلا خوفٍ أو رهبةٍ وكلهم عزمٌ وإيمانٌ، وثقةٌ ويقينٌ، لا يهابون الموت ولا يخشون الشهادة، يخترقون الحواجز وينقبون الجدران، ويتجاوزون الإجراءات الأمنية المشددة، ويتنكرون في ثيابٍ مختلفةٍ وأسمالٍ غريبةٍ عليهم، يحمل بعضهم مسدساً صغيراً بينما يخطط غيره للاستيلاء على بندقيةٍ آلية يغتنمها من مستوطنٍ غاصبٍ.
يصولون كالأسود، ويقفزون كالنمور، ويتحركون بخفةٍ ويتنقلون بسرعةٍ، ويصوبون بخبرةٍ ويصيبون بدقةٍ، ويحددون هدفهم بعنايةٍ، لا يضطربون ولا يتعثرون، ولا يتوقفون ولا يجفلون، ينتهون من مهمتهم عند آخر طلقةٍ من سلاحهم، أو يقررون الانتقال إلى مكانٍ آخر، ليفتحوا فيه جبهةً جديدةً، ويخوضوا غمار مواجهةٍ أخرى، ولا تراودهم أفكارٌ بالهروب أو النجاة، بل تزاحمهم مشاعر الشهادة وفضائل الشهداء، ويصرون على نيلها، ويثبتون حتى ينعموا بها وقوفاً كالأشجار، شامخين كالجبال، مرفوعي الرأس بعزةٍ وافتخار.
بالمقابل كشفت الأحداث نفسها، وفي الفترة الزمنية ذاتها، عن الصورة الحقيقية للمحتلين الصهاينة، وعن الوجه البشع للمستوطنين الإسرائيليين، وأظهرت بجلاءَ جبلتهم المريضة وفطرتهم السقيمة، وكشفت بسفورٍ عن طباعهم الغريبة وسلوكهم الشائن، إذ بدو جميعاً رغم أسلحتهم وعتادهم، وإجراءاتهم وتحصيناتهم، وأعدادهم الكبيرة وتجمعاتهم الغفيرة، ووسائل التجميل وأدوات الكذب والتضليل، خائفين وجلين، مذعورين مرعوبين، يحسبون كل صيحةٍ عليهم، يتدافعون هرباً ويتعثرون اضطراباً، ويتلفتون يمنةً ويسرةً وخلف ظهورهم، يظنون أن الموت يلاحقهم، وأن الفلسطيني المقاوم يصوب سلاحه عليهم، فيهربون منه فرادى، كلٌ يريد أن ينفذ بجلده وأن ينجو بروحه، لا يلوون على أحد، ولا يمسكون بيد صغيرٍ أو ضعيفٍ، أو امرأةٍ وعجوزٍ كبيرٍ، إذ لا يهمهم أحدٌ غير أنفسهم، ولا تعنيهم حياةُ غيرهم.
خلت الشوارع منهم وقد كانت بهم مليئة، ومقاهيها بالمئات عامرة، وبدت المدينة خاليةً من السكان، إذ لم يعد أحدٌ منهم يتجول في الشوارع أو يسير في الطرقات، رغم أنهم يحملون المسدسات والأسلحة الرشاشة، ويحميهم الجيش وترافقهم الشرطة، وتتابعهم الأجهزة الأمنية وتزودهم بالمعلومات والصور، وترشدهم إلى المسالك والمعابر، وتخبرهم عن شخصية المنفذ وهويته، وصورته وملامحه، ورغم ذلك فقد هربوا جميعاً، وتركوا المدينة كلها مسرحاً للبطل، يصول فيها كما الأسد، ويزأر فيها كالهزبر بحثاً عن هدفٍ.
تناقل الفلسطينيون والعرب في كل مكان صور العمليات البطولية، ومشاهد المواجهة، وشاهدوا أبناءهم في قلب المعركة وكأنهم في سوح المقاومة، عيونهم ثاقبة، وخطواتهم واثقة، وأقدامهم على الأرض راسخة، وقاموا بتبادل صور قطعان المستوطنين الهاربة، وفلولهم النافرة وكأنها من الأسود فارةً، وخرج الفلسطينيون في الوطن والشتات، في مسيراتٍ سيارةٍ وراجلةٍ، مبتهجين بالعمليات، وفخورين بالأبطال، وشامتين بالعدو وساخرين منه، ويتوعدونه بالمزيد ويعدونه بالأسوأ والأصعب.
بينما أصدرت الأجهزة الأمنية وهيئة الرقابة العسكرية الإسرائيلية أوامر لمستوطنيهم، تقضي بعدم تداول الصور ونشرها، ووقف تبادل الأخبار، والكف عن إظهار حالة الرعب التي يعيشونها، لمنع انتقالها إلى غيرهم، أو تأثيرها على سواهم، وأمرتهم بالسكون وعدم الحركة، والدخول إلى بيوتهم وعدم مغادرتها، مخافة أن يوقعهم الاضطراب في مواجهاتٍ داخليةٍ، فيقتلون بعضهم ويطلقون النار على أنفسهم، ظانين في كل مشتبهٍ فيه أنه الفلسطيني المقاوم، الذي نجح في كل عمليةٍ في أن يفرض على المستوطنين جميعاً في كل بلدةٍ، حالةَ منع التجوال، وأن يجبرهم لساعاتٍ طويلةٍ بالبقاء رهن الإقامة الجبرية، حتى يصدر لهم أمره بانتهاء المعركة.
تؤكد المشاهد كلها على حقيقةٍ واحدةٍ وثابتٍ متجذرٍ، لا يمكن إخفاؤه أو طمسه، أو إهماله والتجاوز عنه، ألا وهو أن الفلسطينيين هم أهل الأرض وأصحاب الحق، وأنهم المُلَّاك الأصليون لهذه الأرض وسكانها التاريخيون، وأن المستوطنين الإسرائيليين ليسوا إلى غزاةً محتلين، وأغراباً وافدين، وضعفاءً خائفين، ليس لهم حقٌ في الأرض ولا جذورٌ فيها، ولا ما يبقيهم عليها أو يثبتهم فيها، إلا أن يرحلوا عنها ويتركوها، ليعود إليها أهلها ويسكنوها.