“الإبراهيمية” شماعةٌ للتطبيع
بقلم/فضل جحاف
تبنَّتِ الإدارةُ الأمريكيةُ في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاستراتيجية الإسرائيلية التي أخذت معالمها تتضح من خلال التحولات السياسية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط التي شكلت عاملًا مهمًّا وفاعلًا في التحولات السياسية في منطقتنا العربية وفي العلاقات والصراعات، وإعادة بناء التحالفات.
وكما ظهرت أبعاد التحولات الأمريكية وانعكاساتها الحيوية على الصراع العربي -الإسرائيلي والعلاقات العربية -الإسرائيلية التي مهدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنقل العلاقات القائمة سرًا إلى المرحلة العلنية المطلوبة إسرائيليًا، حَيثُ أدركت قيادات الكيان الصهيوني في تل أبيب أن الخروجَ بالعلاقات مع الدول الخليجية إلى العلن بات هدفًا مُلِحًّا يجب تحقيقه سريعًا في ظل التطورات الأخيرة في المنطقة وظروفها الموضوعية، الأمر الذي يمكن تل أبيب من الانتقال إلى مرحلة متقدمة مع السعوديّة تحديدًا لجهة التنسيق والتحالف لـ “مواجهة الأخطار المشتركة”.
ويعد هذا الانتقال بالتبعية انتصاراً لمنطق اليمين الإسرائيلي الذي يترأسه (نتنياهو) تجاه القضية الفلسطينية، إذ يروج الأخير لنظرية أن رفع مستوى العلاقات مع السعوديّة، وغيرها من (دول الاعتدال العربي) هو المدخل لحل القضية الفلسطينية وبلا أثمان، بدلاً عن أن يكون حَـلّ القضية الفلسطينية هو المدخل للتطبيع، الأمر الذي يمكّن الكيان الصهيوني من فرض تسوية على السلطة الفلسطينية من دون تقديم تنازلات إسرائيلية.
وفي هذا السياق، دعمت إدارة ترامب رؤية نتنياهو لحل القضية الفلسطينية، وإحلال السلام في المنطقة العربية من بوابة التطبيع وصياغتها في شكل اتّفاقيات كإطار بديل ممّا يسمى (صفقة القرن) التي سعت إدارة ترامب في تمريرها تحت مسمى السلام الاقتصادي من خلال مؤتمرات بمشاركة إسرائيلية وعربية قوبلت تلك المساعي بمواقف وتحَرّكات شعبية قادتها دول محور المقاومة والممانعة؛ دعمًا لمواقف حركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية الرافضة بشدة للخطة الأمريكية، وهو ما يراه مراقبون أنه سبب أَدَّى إلى تأجيل واشنطن صفقة القرن إلى أجل غير مُسَمَّى ودفعها للتركيز على استمالة الدول الخليجية للتطبيع مع إسرائيل على أَسَاس المشترك الديني التاريخي المفترض في مسعى سياسي وفكري، لترسيخ وجود إسرائيل في محيطها العربي والإسلامي.
وهذا المسعى ضمني في معظمه، وإن تظافرت أدلته دون تصريح علني قاطع، ولكن بما يكفي لرسم معالمه، أما خروجه للعلن فكان في تسمية (معاهدات) السلام بين الكيان الصهيوني والإمارات وغيرها باتّفاقيات “إبراهيم” وذلك على خلفية تعود لأكثر من عقدين من الزمن ترى في “الإبراهيمية” وسيلة ذات أبعاد دينية ودلالات تاريخية لتحقيق قبول وتقارب لتبديد العداء العربي الإسرائيلي، ومن ثم توظيفها في سياق الترويج للمنطق الإسرائيلي -اليميني إزاء عملية السلام الذي يرى أن التطبيع مقدمة للتسوية النهائية لحل القضية الفلسطينية.
لذلك لم تكن مسألة تغيير رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تسمية اتّفاقيات التطبيع بين كُـلّ من الكيان الصهيوني من جهة، والإمارات والبحرين من جهة أُخرى، من اتّفاق (ترامب) إلى اتّفاق (إبراهام) من قبيل المصادفة أَو خوفًا من انتقادات الإعلام حسب تعبيره، بل إنها تمثل خطوة تم اتِّخاذها عن قصد، وبناءً على توجّـهات فكرية وسياسية مقرّرة منذ عقود تعتمد بالأَسَاس على توظيف الدين لخدمة السياسية الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وكوسيلة؛ مِن أجلِ تكريس التطبيع مع إسرائيل من باب المحبة والسلام والحوار بين الأديان.
ولم يكن وصفُ الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) لاتّفاق السلام المسمى (إبراهام) بـ (التاريخي) محض صدفة بل تبنّياً للاستراتيجية الإسرائيلية ولمنطق اليمين الإسرائيلي الذي يعتبر التطبيع مع الدول العربية هدفًا سياسيًّا يجب ألا يُعزل عن الأبعاد الدينية، التاريخية، ومن هذا المنطلق نجح مستشارو ترامب من اليهود الصهاينة في مواءمة السياسة الأمريكية مع الطرح الإسرائيلي لمفهوم الإبراهيمية الذي أخذ بُعدًا تاريخياً يذهب باتّجاه إقرار حقوق وراثية من وحي أسفار التوراة للشعوب المذكورة فيه، ولا سيَّما حق إسرائيل بأرض الميعاد.
وعقب توقيع الاتّفاق وصف رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو الاتّفاق باليوم (التاريخي) في دلالة واضحة على تمكّن اليمين الإسرائيلي من فرض “معادلة السلام مقابل السلام” بدلًا عن معادلة “الأرض مقابل السلام” التي ارتبطت بالمبادرة العربية في إطار تنفيذ الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تكريس النهج الإبراهيمي بأبعاده المختلفة كفلسفة المستقبل لمنطقة الشرق الأوسط عُمُـومًا، والعالم العربي خُصُوصاً من خلال المسار الإبراهيمي كمدخل للاعتراف بإسرائيل كدولة تستمد شرعيتها من الدين، ويكون انتماؤها زورًا إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام.
ومع أن الإبراهيمية مصطلح ديني عقائدي يرتبط برمز ديني بالإجماع فَإنَّ الطرح الإسرائيلي للإبراهيمية في هذه المرحلة لم يكن بعيدًا عن مرامي الاستراتيجية الإسرائيلية للتطبيع الديني على أَسَاس المشترك الديني لتحقيق الأهداف الإسرائيلية وفي مقدمتها اعتراف الدول العربية التي سارعت لتطبيع علاقتها مع إسرائيل بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل مع السماح للمسلمين المطبعين بزيارة المسجد الأقصى وأداء الصلاة الإبراهيمية فيه، خَاصَّةً أن إبرام اتّفاقيات إبراهام جاءت عقب اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.