تساؤل مشروع حول التزامات مصر الخارجيه
لا ينافس هموم مصر الداخلية في الجسامة وشدة الوطأة سوى هم الخارج..
ذلك أن الاستبداد الذي تسلط على البلد لم يكتف بإهانة المواطنين? وإنما أهان الوطن أيضا.
وحين أهينت مصر فإن العرب أصبحوا بلا وزن وبلا كرامة.
ــ1ــ
حين وقعت مصر اتفاقيات السلام مع إسرائيل في عام 1979 فإن ذلك كان إشهارا لانكسارها وبداية لانكفائها?
وحين انكفأت فإنها دخلت في طور الانحسار والصغار الذي حول رئيسها في نهاية المطاف إلى كنز إستراتيجي لإسرائيل وليس لوطنه أو أمته?
وكانت تلك ذروة المهانة التي أخرجت مصر والعرب أجمعين من المعادلة الدولية? وأخضعتهم لوصاية الدول الكبرى من الناحية العملية?
وترتب على ذلك أن صار العالم العربي سفينة بلا ربان وجسما بلا رأس.
وحينئذ تمت استباحته? حتى أصبح ساحة مفتوحة للعربدة والغارات والفوضى.
فجرى اجتياح لبنان وضرب المفاعل العراقي واحتلال الكويت ثم غزو العراق والانقضاض على غزة وانفصال جنوب السودان والاستفراد باليمن?
ذلك بخلاف انطلاق عمليات التهويد والاستيطان في فلسطين.. إلخ.
ولم يكن الانقلاب مقصورا على الخرائط السياسية فحسب? وإنما شمل الانقلاب منظومة القيم السائدة أيضا.
فتراجعت قيم الاستقلال الوطني والمقاومة والتنمية الذاتية والانتماء للأمة العربية?
في حين صار «الاعتدال» المغشوش نقيضا لكل ذلك? وعنوانا لكل ما من شأنه الارتماء في أحضان السياسة الأمريكية
والتطبيع ــ التواطؤ إن شئت الدقة ــ العلني والسري مع إسرائيل? إلى جانب تكريس القطرية وإعلاء شأن القيم الاستهلاكية من خلال الانفتاح الذي لا ضابط له أو رابط.
الخلاصة أن مصر دفعت ثمنا باهظا جراء انكفائها? ودفع العرب ثمنا غاليا جراء غيابها.
وهو ما يؤكد المعنى الذي تحدث عنه الدكتور جمال حمدان في مؤلفه الكبير «شخصية مصر»? حين قال إن مصر ظلت «مفتاح العالم العربي? إن سقطت سقط وإذا فتحت فتح.
لذا كان الاستعمار دائما يركز ضربته الأولى والقصوى على مصر? ثم ما بعدها فسهل أمره.
هذا ما أدركته وفشلت فيه الصليبيات (الحرب الصليبية) وتعلمه الاستعمار الحديث. فكان وقوع مصر سنة 1882 (تحت الاحتلال البريطاني) بداية النهاية لاستقلال العالم العربي.
بينما جاء تحرر مصر الثورة بداية النهاية للاستعمار الغربي في المنطقة بل في العالم الثالث جميعا».
ولأنه انتهى من الكتاب قبل توقيع اتفاقية السلام? فلست أشك في أنه كان سوف يستشهد أيضا بما جرى لمصر والعالم العربي من انكسار وتراجع بعد توقيع الاتفاقية? التي شكلت منعطفا فارقا في تاريخ المنطقة.
ــ 2 ــ
حين استردت مصر كرامتها ووعيها بعد ثورة 25 يناير كان طبيعيا أن تسعى لكي تسترد أيضا مكانتها وموقعها الذي غابت عنه طويلا.
وذلك ليس أمرا هينا لأنه يعني محاولة تغيير الخرائط التي صممت والإستراتيجيات التي رسمت منطلقة من التسليم بأن مصر الكبيرة كبلت وتقزمت? وجرى ترويضها وحبسها في قفص «الاعتدال».
ومن يطالع الصحف الإسرائيلية وبعض الصحف الأمريكية طوال الأشهر التي خلت يدرك مدى الحيرة التي انتابت دوائر صنع القرار في البلدين جراء عودة الروح إلى مصر من حيث لا يحتسبون.
إن استعادة مصر لموقعها الذي ظل شاغرا طوال الأربعين سنة الأخيرة هي المعركة التالية التي على الثورة أن تخوضها. بكل ما تملك من كبرياء وجسارة.
وغني عن البيان أن ذلك يظل مشروطا بكسب معركة ترتيب البيت من الداخل وتثبيت أركانه? التي هي في حقيقة الأمر «أم المعارك» بامتياز?
إن شئت الدقة فقل إن استعادة المكانة معركة مؤجلة إلى حين الانتهاء من لملمة الصفوف وتحقيق التوافق الوطني واستعادة مصر لبعض عافيتها المجهضة والمهدورة.
وذلك لا يلغي أهمية أن تكون لمصر سياسة خارجية مستقلة وواضحة المعالم.
ولست واثقا من إدراك اللاعبين في الداخل لأهمية الإسراع باستيفاء تلك الشروط? لكنني على يقين من أن المراقبين والمخططين في الخارج يعرفون جيدا أن عودة الروح إلى مصر بمثابة بداية النهاية لنفوذهم فيها? الأمر الذي يهدد مستقبلهم في العالم العربي بأسره.
ذلك أن مصر المغي??ِبة والمنبطحة في نظرهم هي مصر النموذجية التي تضمن مصالحهم وتؤم??ن تطلعاتهم.
إذا قلنا إن تماسك الجبهة الداخلية وتعافيها شرط يجب توفره قبل فتح ملفات الخارج إلا أن ذلك وحده لا يكفي. وإنما ينبغي أيضا توفير شرطين آخرين مهمين للغاية هما
استقلال الإرادة الوطنية
ووضوح الرؤية الإستراتيجية التي تحدد دوائر الحركة وتتحرى المصالح العليا للوطن والأمة.
وهو المثلث الذي جرى تقويضه بالكامل في ظل النظام السابق.
فالجبهة الداخلية لم تكن في الحسبان?
والقرار السياسي ظل مرتهنا ولم يكن مستقلا.
أما الرؤية الإستراتيجية فقد ظلت حبيسة الارتباط بالولايات المتحدة والتحالف مع إسرائيل.
ــ 3 ــ
أذك??ر بأن السياسة الخارجية تعد امتدادا للسياسة الداخلية?
وأشدد على أننا لن نستطيع أن نفتح ملف العلاقات الخارجية الشائكة