لكل علـــــم أغنيـــــة حـــــب وإبتسامــــــة وطنيـــــــة
حين اقتربت من النفق الجاري انشاؤه في تقاطع شارعي الزبيري وحدة بقلب العاصمة صنعاء لإلقاء نظرة عليه ظهيرة الإثنين الماضي? فوجئت بالعلم الوطني مرسوما على جدار النفق وهو يجر وراءه ذيلا طويلا ومتعرجا من الموسيقى.
كنا? شقيقي مراد وأنا? نقطع المسافة راجلين من نقطة قريبة من تقاطع شارعي حدة والزبيري باتجاه شارع القصر في منطقة التحرير? وقد تفاجأ مثلي بالعلم والنوتة المرسومين? لكنه سرعان ما تنبه إلى ماهية هذه النوتة بالضبط بعد أن ربطها بالعلم. قال بنبرة المتفاجئ وبصوت عال بعض الشيء: أوووه.. شوف شوف.. نوتة النشيد الوطني!
كان ذيل الموسيقى الطويل والمتموج الذي كان العلم اليمني يجره وراءه وكأنه أغنية حبه الأثيرة جزءا من نوتة النشيد الوطني اليمني بالفعل. كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي تقريبا التي أرى فيها نوتة النشيد الوطني الخاص ببلادي? وكانت هذه هي المرة الأولى التي أنظر فيها الى علم وطني فيبدو لي وكأنه يشق طريقه وحيدا حاله حال سبيله ومستغرقا جدا في “دندنة” أغنية حبه الأثيرة والخاصة به.
أمضينا بضعة دقائق واقفين بأقدامنا على مادة “القار” السوداء المرشوشة حديثا على أرضية الطريق كفرشة تمهيدية لصب مادة الإسفلت. كان “القار” أسود فاحما ويلمع تحت الشمس? لكن نوتة النشيد الوطني المرسومة على الجدار المقابل لحافة الجدار الذي كنا نطل من فوقها عليه كانت مبهرة للغاية وهي تتماوج بطريقة تشعرك أنك بدأت تسمع بعض نغماتها في الحال.
كان أحد الخطاطين ما يزال يعمل على إنهاء النوتة الوطنية? وقد جعلها هذا تبدو لي مسموعة أكثر. كنت سعيدا للغاية وأنا أتأملها? ولابد أن مراد كان كذلك. مر أحد العاملين في النفق? فألقى عليه مراد سؤالا من فوق حافة الجدار بهدف التأكد: هذه نوتة النشيد الوطني?
كان العامل قد رفع رأسه إلى أعلى وأخذ ينظر إلينا ويستمع لسؤال مراد دون أن يتوقف عن السير. وبمجرد سماعه كلمة “نوتة النشيد الوطني”? انفردت ابتسامة عريضة على وجهه? وأجاب مومئا برأسه بالإيجاب دون أن يقول شيئا. فكرت: “ربما تفاجأ مثلنا حين رآها وهي ترسم على الجدار وربما ابتسم نفس هذه الإبتسامة وكان سعيدا مثلنا حين عرف أنها نوتة بلده الوطنية”.
كلانا كان مرتبطا بموعد خاص ومنفصل عن الآخر في شارع القصر? وكان موعدي قد حان. لذا? أستأنفت سيري على عجل? وأتذكر أنني قطعت الخطوات الأولى مسرعا كما اعتدت أحيانا ومتقدما على مراد بعدة خطوات تقريبا? لكن المسافة لم تحل بيني وبين التقاط صوته الخافت وهو يستأنف مع خطواته النهوض من صمته خلفي.
لقد استأنفت طريقي مستغرقا في صمت مطبق فيما استأنف مراد طريقه في الوراء بـ”دندنة” خافتة وحميمة: رددي أيتها الدنيا نشيدي… ردديه وأعيدي وأعيدي!
في صمتي المطبق? كان قد مر في ذاكرتي شريط سريع جدا بل وخاطف من الصور? صور إبتسامات وملامح وجوه يمنية كثيرة وصور أحداث مختلفة? لا أدري كيف مر ذلك الشريط غزير الصور في ذهني بتلك الطريقة والسرعة الخاطفة وفي لحظة قصيرة للغاية كتلك. لكن? بمجرد أن التقطت أذني “دندنة” مراد بمطلع النشيد الوطني? توقف شريط الصور الغزيرة وغير المؤطرة غالبا بإطار واضح ومحدد فجأة? وأدركت طرفا من تفسير مروره الخاطف ذاك في ذهني.
وجدتني أتوقف فجأة ودون وعي أو قرار مسبق بالتوقف? وألتفت إلى الوراء أنظر إليه: تأملت وجهه وهو “يدندن” مطأطئا رأسه ومثبتا نظرته على خطواته? ويبدو أنه شعر سريعا بنظرتي فرفع رأسه وسحب نظرته من على الطريق المرشوشة بمادة “القار”. واصل “دندنته” دون أن أشعر بحرجه المعتاد حين يتم الإمساك به متلبسا بـ”دندنة” أغنية ما. ولحظتها? عند رؤيته لي أنظر إليه? ارتسمت على وجهه إبتسامة أعادت إلى ذهني مباشرة إبتسامة عامل النفق حين سأله عن النوتة الموسيقية الجاري رسمها: كانت نفس الإبتسامة.
بمجرد وصوله إلي? أستأنفت طريقي وهو يسير إلى جواري فيما أخذت “دندنته” تعاود الغوص والإختباء في صدره شيئا فشيئا. مشينا هكذا? لم أقل له شيئا وهو الآخر على الأرجح لم يفعل. الطريق المتبقي إلى مكان الموعد الخاص بي قطعته وأنا أسترجع شريط الصور الذي مر بشكل خاطف في ذهني وأنا أستأنف سيري مبتعدا عن رسمة النوتة الوطنية والنفق قيد الإنشاء.
صدقوا أو لاتصدقوا: أغلب تلك الصور كانت ليمنيين ويمنيات من مختلف الأعمار والمناطق وأغلبهم غير معروفين لي? وقد صادفت أغلب هذه الإبتسامات في ساحة التغيير بصنعاء خلال الشهر الأول من ثورة الشباب السلمية. وهكذا? بعد مرور قرابة عام ونصف على ذلك الشهر العظيم من حياتي? تنبهت إلى أن كل الإبتسامات تقريبا التي ألتقطتها من الساحة خلال ذلك الشهر وانطبعت في ذاكرتي كانت أقرب ما تكون إلى إبتسامة واحدة.
هل يبتسم الناس نفس الإبتسامة حين يتعلق الأمر ببلدهم? حين يتم الإمساك بهم متلبسين بحب بلدهم? لست خبيرا في أنواع الإبتسامات ولا خبيرا في مكنونات النفوس وأعماق البشر. لكنني? وبالإستناد الى ملاحظاتي البسيطة المسنودة بإحساسي الداخلي? أكاد