صلاةُ اليهودِ الصامتة ماكرةٌ والمكاء والتصدية خباثةٌ
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي
لا ينفك الإسرائيليون يبتدعون الحيل، ويختلقون الوسائل، ويقدمون الحجج، وتتفتق أذهانهم عن كل غريبٍ، ويجتهد متطرفوهم بكل استفزازٍ، ويلتفون على الحقوق بكل السبل الممكنة، مهما بلغت قذارتها وخستها، ومكرها وخبثها، للدخول إلى المسجد الأقصى وباحاته، والصلاة فيه وإقامة الشعائر اليهودية في أركانه، وإحياء التقاليد القديمة وبعث الحياة في الأحلام المستحيلة، وغاية مسعاهم السيطرة على مكان المسجد الأقصى، الذي يطلقون عليه اسم “جبل الهيكل”، وهدمه لا تقسيمه، وتدميره وإنهاء وجوده، بحجة أنه بني على أنقاض هيكلهم، وأنه قد آن الأوان لاستعادة إرث الأنبياء ومجد الملوك والأباء، وإعادة بناء هيكل سليمان الثالث، ظانين أنه وعد الرب لهم ووصية الأنبياء لهم.
يريد الإسرائيليون لهذا المسجد المعظم أن يتداعى ويسقط، وأن يتهاوى وينهار، وأن يخرب ويبلى، وألا يصمد طويلاً أمام عوامل التعرية وحوادث الأيام ومر الزمان، وألا يكون قادراً على مواجهة التغيرات المناخية والظروف الطبيعية، فتراهم يعمدون إلى منع ترميمه وصيانته، ورفض إعمار ما تهدم منه أو تصدع فيه، ومنع إدخال العديد من المواد والأدوات والآليات إليه، ليبقى ضعيفاً متصدعاً، خرباً متآكلاً، آيلاً للسقوط والانهيار بفعل الطبيعة، أو نتيجة أي عملٍ مقصودٍ ومتعمدٍ، كانهيار نفقٍ أو حدوث تصدعٍ في الأرض، يؤدي إلى زعزعة أركانه وتصدع جدرانه وهدم بنيانه.
وهم إلى جانب محاولات التخريب ومساعي الهدم عملياً، يحاولون السيطرة على المسجد الأقصى دينياً، والتحجج بالصلاة فيه وأداء المناسك اليهودية، وزيارته ونيل البركة منه وفيه، وعيونهم تتطلع لأن يكون لهم فيه موطأ قدم معلومٍ، وأماكن لهم مخصصة، وأزمنة محددة، لا يزاحمهم فيها أحد، ولا يمنعهم من الدخول إليه خلالها أحدٌ، ويتخذون إلى ذلك سبلاً عديدةً، يرقبها الفلسطينيون ويعرفونها، ويرصدونها ويصدونها، ويواجهون بما يستطيعون وبما يتيسر لهم جموع المستوطنين الذين يقتحمون المسجد وباحاته، ويحددون لاقتحاماتهم أياماً وساعاتٍ، ويعلنون عنها، ويدعون إليها جموع المتدينين والمتطرفين، ويشجعون عليها الزوار والوافدين، والطلاب والمجندين، وغيرهم من الأحزاب المتشددة والمنظمات المتطرفة.
صلاة اليهود في المسجد الأقصى وباحاته، ليست عبادة ولا هي تقرباً إلى الله عز وجل، وهي لا ترقق القلوب ولا تصفي النفوس، ولا تسمو بالأرواح ولا تطهر الإنسان، ولا تخلق الخير ولا تدعو إلى السلام، ولا تدل على طيب مؤديها ولا صدق القائم بها، وليس فيها خشيةٌ ولا سكينةٌ ولا وقارٌ، ولا يسبقها تواضعٌ ولا استغفار، ولا إقلاع عن الذنب ولا امتناع عن المعصية، ولا نوايا للصلاح أو عزائم للصدق ومساعي للطهارة.
إنما هي طقوس فسادٍ، وترانيم حقدٍ، وتراتيل بغيٍ، وهي صلاةٌ كيدية وحركاتٌ استفزازيةٌ، ومماحكة مقصودةٌ ومزاحمةٌ عنيدةٌ، ونفوسٌ مريضةٌ، ونوايا خبيثةٌ، وهي لأغراضٍ قومية وغاياتٍ سياسية وأطماعٍ دينيةٍ، يتطلع إليها اليهود لتحقيق أحلامهم القديمة، وأطماعهم الدائمة، على حساب أصحاب الحق التاريخي والشرعي والقانوني والديني والإنساني في الأرض والمسجد، وفي الديار والمقدسات.
وها هم ومن آمن بهم واتبعهم من اليهود الوافدين والزائرين، قد عمدوا إلى الصلاة في المسجد الأقصى بصمتٍ مقصودٍ وهدوءٍ متعمد، وقد أقرت لهم محكمةٌ إسرائيلية الصلاة الصامتة، على أنها حقٌ لهم في أي وقتٍ في باحاته المطهرة، وقد كانت من قبلُ مُكاءً مقيتاً، يرفعون خلالها في رحابه المقدس عقيرتهم بالصفير المزعج، والصخب المستفز، والجلبة المخلة والفوضى المقصودة.
كما كانت أيضاً تصديةً باستعلاءٍ وغرورٍ، واستخفافٍ وقلة أدبٍ، وعبادةً بصخبٍ وفجورٍ، لا تليق بعبادٍ يقفون بين يدي المولى عز وجل بخشوعٍ وخضوعٍ، وبتواضع المخلصين وإقبال المخبتين، وتبتل الصادقين، فتراهم يصفقون بأيديهم فرحاً، ويرفعون بها الأصوات غروراً، وقد أقرت لهم محكمتهم العليا مراراً صلاتهم في المسجد الأقصى، رغم علم قضاتها الكبار، أنهم يقصدون استفزاز الفلسطينيين والتضييق عليهم، ومزاحمتهم في صلاتهم، ومنافستهم على مسجدهم، تمهيداً لتمكينهم فيه وسيطرتهم عليه، وتفردهم فيه واستيلائهم عليه، وهو الهدف الذي دأبوا عليه منذ سنواتٍ، عليه يعملون وله يخططون.
القرار القضائي الإسرائيلي بالسماح لليهود بأداء الصلاة في باحات المسجد الأقصى، قرارٌ خبيث وإن بدا أنه لا يريد استفزاز الفلسطينيين بالصلاة العلنية، لكنه ينطوي على خطورةٍ كبيرةٍ، كونه يتيح لليهود الدخول إلى باحات المسجد الأقصى في أي وقتٍ، ويعتبر أن وجودهم فيه حتى أثناء أداء المسلمين لصلاتهم، لا يعتبر جريمة، ولا يستوجب إجبارهم على الخروج من المسجد ومغادرة باحاته.
لا يقصر الفلسطينيون في الدفاع عن مسجدهم، والتضحية في سبيله، والاستبسال في حمايته، فتراهم يتنادون للرباط فيه، ويتداعون للتجمع في باحاته، والصمود على بواباته، والتمترس على مداخله، لمنع غلاة المستوطنين وعتاولة المتدينين من اقتحامه.
ولولا قوانين سلطات الاحتلال القاسية، وحواجزه المنتشرة، وبواباته الحصينة، ودورياته الجوالة، التي تمنع غالبية الفلسطينيين من الدخول إلى مدينة القدس والوصول إلى المسجد الأقصى، لرأيناهم بمئات الآلاف يتوافدون إلى مدينتهم المقدسة ومسجدهم الأقصى، ولكن سلطات الاحتلال التي تعلم عظم مكانة هذا المسجد لدى المسلمين، تحاول بكل السبل الممكنة منع الفلسطينيين من الوصول إليه والرباط فيه أو الدفاع عنه.
ولعل العرب والمسلمين في كل بقاع الأرض، يتمنون المساهمة في الدفاع عن المسجد الأقصى وحمايته من كيد اليهود ومكرهم، ولو أن حكوماتهم تسمح لهم بالتصدي لهذا العدو الماكر الخبيث، ما كانوا ليترددوا لحظةً أو ليقصروا يوماً، أو ليدخروا جهداً، ولكن أغلب الأنظمة العربية متواطئة مع الاحتلال، وخاضعة لإرادته وراضية عن سياسته، فتراها تسكت عن ممارساته، وتقبل بإجراءاته، ولا تعترض عما يقوم به من قهرٍ وظلمٍ وإكراهٍ للشعب الفلسطيني، ولعل بعضها تقوم بلا خجلٍ أو استحياء، بالتطبيع العلني المخزي معه، والتنسيق الأمني والسياسي وإياه، بما يحقق أهدافه، ويرضي رغباته، ويخفف من غلواء الغضب عليه والثورة ضده.