المولدُ النبوي وتصويبُ مسارات الأُمَّــة
بقلم/ عبدالرحمن مراد
ما يميِّزُ الاحتفالَ بالمولد النبوي هذا العام هو الوعيُ بضرورات الإصلاح، فالإصلاحُ نسقٌ فكري ثقافي حضاري تُقْدِمُ عليه الأممُ لإنجازه بخطابٍ وتقنياتٍ ومعطياتٍ قادرةٍ على التفاعل مع الواقع لا القفز على شروطه الموضوعية وقادرة على فرض طابعها الخاص الذي تتسم به المرحلة أَو يتسم به المستوى الحضاري الحديث.
ما يحدُثُ اليوم في عموم الجغرافيا اليمنية هو عملية ثقافيةٌ تحفيزيةٌ تهدفُ إلى إكساب المجتمع هُــوِيَّة إيمَـانية مضافة وهي تعتمد اعتماداً متزايداً على مختلفِ الجماعات؛ بهَدفِ الوصول للوحدة المشتركة أَو الإحساس بها في ظل ما يتعرض له الإسلام من هجوم ومن تشويه متعمد ويحمل شلال الإيحاء المتدفق من بين حروفها مشروعاً نهضويا كَبيراً يصنع من الفكرة الدينية مشروعاً سياسيًّا واعياً وقادراً على إحداث التحولات وتحريك عجلتها وهذا ما تدل عليه رموز وإَشارات خطاب السيد العلم قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي.
وقضيتُنا اليوم هي الوصول إلى وحدة إنسانية مشتركة، ولا نستطيعُ ذلك إلا من خلال الفنون، وقد يشكل الاحتفال بالمولد النبوي ركيزة أَسَاسية للوصول إلى ذلك فالمولد لا يعني تظاهرات شكلية ولكنه يعني مساراً ونسقاً ثقافيًّا يعيد ترتيب النظام العام والطبيعي ويعيد البناء لمواجهة العدوّ الذي يتربص بنا الدوائر وغاية مقاصده تفكيك البنى الثقافية وفصل الأُمَّــة عن رموزها ومرجعياتها الفكرية والثقافية والإيمَـانية حتى يسهل عليه فرض ثنائية الهيمنة والخضوع عليها وقد فعل ذلك بالقياس إلى حركة التطبيع التي تجري مع الكثير من الأنظمة العربية اليوم في عموم الوطن العربي.
ولا بد من التأكيد على فكرة أن رسالةَ الإسلام جاءت لتستكملَ البُعدَ القيمي والأخلاقي عند البشر بعد أن بلغت الرسالات كمالها في الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية ولذلك عبر الرسول الأكرم عن ذلك بقوله: “إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق” بل مدح الله رسوله في محكم الذكر الحكيم بقوله: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” في إشارة إلى حالة التكامل التي أرادها الله كما تشير آخر آية نزلت على الرسول الأكرم وهي قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
هذا البُعدُ القيمي والأخلاقي غاب عن البحث والتنظير والتأصيل في مسارنا الثقافي التاريخي بل لم يتم التأليف فيه إلا نادراً قديماً وحديثا، والسؤال الأخلاقي أثاره وبسط عنه القول الجابري في مشروعه النقدي “نقد العقل العربي” وفصل القول عنه في كتابه “العقل الأخلاقي العربي”.
ولعلنا نستبين الخلل البنيوي في مسارنا الثقافي والسياسي من خلال هذا الغياب أَو التغييب، فالإسلام الذي هدم منظومة الثقافات الكبرى في زمنه وهي الثقافة الفارسية والرومانية، والثقافة الفارسية هي ثقافة وثنية “مجوسية” لا تلتقي مع الإسلام في نقاط بعكس الثقافة الرومانية التي تشترك في كثير من محدّداتها مع الإسلام، ولذلك حاولت الثقافة الفارسية مقاومة عوامل الفناء من خلال إعادة إنتاج نفسها في الثقافة الإسلامية فتركت أثراً واضحًا في نظرية الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وفي اللغة والآداب، وفي الحياة الاجتماعية، والقارئ لكتب الأخبار كـ”العقد الفريد” لابن عبد ربه، وَ”أخبار الزمان” للمسعوديّ، وغيرهما، يكتشف ذلك الأثر للثقافة الفارسية، كما يكتشف الرؤية المنهجية التي حاولت صرف العقل العربي عن الغوص في النظرية الأخلاق العربية وهو بالتالي تعبير عن انحراف في مسار الرسالة المحمدية وقد كان من نتائج ذلك حالة الهوان والضعف الذي وصل إليها العقل العربي والمجتمع العربي منذ العصر العباسي الثاني إلى اليوم.
ولذلك فالاحتفاء بالرسول الأكرم لا بُـدَّ أن يكون بعثاً وبحثاً وتحقيقاً وتصويباً للمسارات وليس مُجَـرّد بهرج مفرغ من المعنى الحقيقي للاحتفال، ويفترض بنا أن نحاكم التاريخ ونحاكم واقعنا محاكمة عادلة لنعيد ترتيب نسقنا، ونعيد بناء الحيوات وفق قيم ومبادئ الإسلام لا غيره ووفق المستوى الحضاري والفكري للبشرية، فالإسلام رسالة متجددة وليس قالباً جامداً، وهو فكرة ثورية والفكرة الثورية التي قادها الرسول الأكرم أحدثت تحولاً وتبدلاً ما زال يذهل المفكرين إلى اليوم والذين جعلوا الإسلام كهنوتاً وحالةَ تسلط جماعات على أُخرى تأثراً بما دخل على الإسلام من ثقافات لم يفلحوا بل ساهموا في تراجع فكرة الثورة وأثرها في واقع البشر بل كانوا سبباً جوهرياً ومباشراً في حالة التخلف والتراجع الحضاري للعرب والمسلمين وهو حال من الذل والهوان يعانونه اليوم كما هو مقروء في الواقع.