المواجهة الأميركية في لبنان.. حصار الخيارات الفاشلة
بقلم / د. علي مطر
لا نغالي إن قلنا إن الولايات المتحدة الأميركية، الدولة العظمى التي تتربع على عرش النظام العالمي، فشلت في كسر حزب الله من خلال الحصار الذي تفرضه منذ عام 2018. ولا نجافي حقيقةً إذا أشرنا إلى أن خيارات واشنطن تجف شيئاً فشيئاً في هذه المعركة، ولم يعد أمامها إلا تغيير موازين القوى في الانتخابات القادمة، حيث بات إجراؤها أمراً محسوماً لديها، ولم يبق مسؤول أميركي – ابتداءً من وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى السفيرة دوروثي شيا – إلا وأشار إلى ضرورة إجرائها لتغيير خارطة القوى من خلالها.
لا تكلّ واشنطن من الحصار، ولكن أيضاً حزب الله لا يمل من المواجهة، تحاول واشنطن من خلال كل الخيارات التي استخدمتها حتى الآن، وإن لم تنجح في أن تكمل ضغطها على لبنان، من أجل خلعه ثياب المقاومة، ثياب الكرامة في مواجهة ذل التطبيع، وبالتالي فك حلفاء حزب الله الارتباط به، وتقليب الشعب اللبناني وتالياً بيئته عليه، تارةً من خلال منع تشكيل الحكومة وفرض العقوبات وأخرى عبر منع التوجه شرقاً، وثالثة عبر محاولات التدويل وغيرها، إلا أن أخطرها هو إظهار الولايات المتحدة الأميركية نفسها المنقذ للبنان، وكي وعي الشعب اللبناني، بأن المقاومة هي الإنهيار وأن التطبيع هو الإنقاذ، ومن مظاهر ذلك تشويه صورة المقاومة، في مقابل إعطاء جرعات المخدر، من خلال دعم مؤسسات معينة أو عبر إعطاء القروض من خلال البنك وصندوق النقد الدوليين.
صحيح أنه لا مكابرة بأن عوامل القوة والقدرة لدى الأميركي والتي اكتسبها بفضل سياسات الهيمنة والسيطرة والتمدد والتدخل في شؤون الدول، مكنت صناع السياسة الأميركية من استخدام أدوات ارغامية الهدف منها تثبيت ما تبقى من الهيمنة ومعاقبة المتمردين على هذه السياسة وردع أي محاولات تمرد جديدة، فكل من يرفض سياسة واشنطن هو عدو بالنسبة لها، ولكن في المقلب الآخر فإن مواجهة هذه السياسات ناجحة وفعالة وتحصد نتائجها الجيدة تباعاً وبشكل استراتيجي.
وكما نعلم فإن من بين أكثر خيارات القدرة على الارغام أهمية وتوفرًا للولايات المتحدة هو الحصار وتسليط العقوبات بمختلف آلياتها من حظر وإجراءات تضييق على كل منافذ الدولة، الى دعم المعارضة السياسية لأنظمة الحكم في الدول المستهدفة، ودعم الأنظمة التابعة وإدارة مؤسسات أمنية واقتصادية بشكل مباشر أو غير مباشر في الدول المفككة.
وعلى الرغم من أن البعض في الادارات الأميركية المتعاقبة يقر بأن ارغام الدول المستهدفة مثل إيران وسوريا واليمن وفصائل المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين، على الاستسلام للسياسات الأميركية قد نجح الى حد ما بسبب قدرة الولايات المتحدة الأميركية على استخدام هذه الأدوات وتفعيلها، ونجاحها أكثر في استخدام أسلوب المراوغة والدبلوماسية الناعمة لإخضاع هذه القوى، إلا أن البعض الاخر يعترف بأن أدوات الارغام لا تزال عاجزة عن تحقيق الاهداف الأميركية، بسبب صمود هذه القوى واعتمادها سياسة ردع فاعلة استطاعت أن تعطل هذا الاستهداف الأميركي في مراحل متعددة، ومن هؤلاء جون الترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأميركي، الذي يرى أن حلفاء واشنطن لم يحققوا المرتجى في لبنان.
ولا تزال المؤشرات، خاصة تلك المرتبطة بدول المنطقة كلبنان، تؤكد على أنها لا تزال تشكل تحديا متعاظما لخيارات الولايات المتحدة العسكرية وغير العسكرية في منطقة حيوية واستراتيجية، وعلى إثر الوصول إلى يقين لا ينقضه شك بأن حزب الله لا يزال قوياً ولم يتأثر، تلجأ الولايات المتحدة لاستخدام صفوة خبرائها لخلق ظروف تؤدي الى إخضاع لبنان وحزب الله.
لقد عملت الولايات المتحدة الأميركية على هذا الحصار من خلال انشاء نخب وجماعات داخل المنظومة السياسية لفرض مشروع في الداخل اللبناني يقصي بقية الأطراف السياسية الفاعلة الرافضة للهيمنة الاميركية ومشاريعها التدميرية وعلى رأسها حزب الله، إلا أنها فشلت في تحقيق النتائج المطلوبة.
الأمر الآخر الذي لا تزال واشنطن تستخدمه هو السيطرة على المنظومة الاقتصادية والمالية، حيث تتدخل الولايات المتحدة الاميركية لتوجيه الشركات والمؤسسات المالية والبنكية في لبنان (مصرف لبنان المركزي) ومن خلال مجموعة من الخبراء لتكون طرفا مباشرًا في المواجهة مع البيئة الداخلية (المقاومة) المستهدفة علنًا، فتُحكم الحصار على الدولة والحكومة وتعطل أي مبادرات وطنية لحل الازمات العالقة سياسية كانت او اقتصادية.
كما تقحم الإدارة الأميركية المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لفرض شروط تعجيزية، واستخدام المؤسسات المالية الدولية – كأدوات ضغط – بشرط قيام المؤسسات التابعة للولايات المتحدة بتنفيذ مشروعاتها.
لكن الاخطر من ذلك، أن الفشل الأميركي، يدفع رجال واشنطن إلى التحريض والشيطنة ضد من تعتبرهم الولايات المتحدة متمردين على سياساتها وبكل الوسائل إعلامية كانت أو سياسية أو أمنية، ومن ثم تحاول نشر الفوضى واستغلال هشاشة البيئة الداخلية لتمرير عناوين طائفية ومذهبية هدفها استنزاف بيئة المقاومة وارباكها، وصولاً إن استطاعت إلى الذهاب الى خيار الحرب الاهلية من خلال زرع الفتن في بيئات هشة وغير متجانسة لإسقاط الدولة ولاستنزاف قوى المقاومة ماديا وبشريا.
ومع ذلك، تثبت السياسة الأميركية الأحادية الجانب أنها اقل فاعلية، وأن معدل فاعليتها منخفض مقارنة بالسياسات الدولية المجتمعة، ومن خلال مواجهة هذه السياسات يمكن تخطي الحصار، وهنا نقول إنه وفق تجارب عدة في كوبا وفنزويلا وإيران وسوريا واليمن ولبنان، فإن واشنطن لن تستطيع تحقيق مآربها في حال مواجهتها، ولم يبق أمامها الكثير من الخيارات سوى تغيير موازين القوى عبر الانتخابات القادمة، وإن كانت ستستمر في استخدام سياسة الحصار والعقوبات، إلا أن هذا الحصار هو حصار الخيارات الفاشلة.