نزارُ بنات خاشقجي فلسطين
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يستدرجوه إلى سفارةٍ أجنبيةٍ ليقتلوه، ولم يوهموه بالأمان ليخدعوه، ولكنهم داهموا بيته وفيه ضربوه، وأمام زوجته وأطفاله سحلوه، وبشهادة شهود العيان انهالوا على رأسه ضرباً بعتلاتٍ حديديةٍ، وبأعقاب البنادق والمسدسات الثقيلة، وجروه بقوةٍ وعنفٍ إلى أحد المقار “الوطنية” الأمنية، وفيه واصلوا تعذيبه، واستمروا في ضربه، وأمعنوا في إهانته، حتى أجهزوا عليه وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، بعد ساعاتٍ قليلة على اعتقاله، وكأنهم كانوا يريدون قتله وتصفيته، لا اعتقاله ومحاسبته، ليضمنوا صمته، ويطمئنوا إلى سكوته الأبدي.
ومن قبل كانوا قد أطلقوا على بيته النار وحذروه، وأرسلوا له رسائل التهديد وتوعدوه، وطالبوه بالصمت وإلا قتلوه، والكف عن المعارضة والتشهير وإلا صَفُّوه، فقد علا صوته معارضاً للسلطة وناقداً لقيادتها، ومحذراً لها ومنها، وتعمد كشف فضائحها وتعرية رجالاتها، وتسليط الضوء على جرائمها، ورفض الصمت على أخطائها، وأصر على مواقفه منها واتهامه لها، فاغتاظت منه السلطة وأجهزتها الأمنية، فقرروا التحرك ضده والتعامل معه بقوةٍ وعنفٍ، ليردعوه وغيره، ويسكتوه وسواه، فقد ضاقوا به ذرعاً، وتأذوا منه نقداً، وتوجعوا منه تعريضاً وتصريحاً.
يتساءل الفلسطينيون ما الجريمة التي ارتكبها نزار بنات، ولماذا استحق هذا القتل البشع والخاتمة الأليمة، وهل كان يستحق أن يلق هذا المصير أمام زوجته وأولاده، وعلى مرأى من أهله وجيرانه، فهل أجرم في حق شعبه إذ ساعده في كشف الحقائق وإماطة اللثام عن الجرائم، أم أنه أخطأ إذ حذر السلطة من مغبة الاستمرار في خداع الشعب وظلمه، والكذب عليه والإساءة إليه، وبيعه الوهم وتجريعه الألم، والإمعان في ظلمه والإصرار على قتله، والاستمرار في التعاون والتنسيق مع عدوه، والمتاجرة بحقوقه وممتلكاته، والتفريط في حاضره ومستقبله، والتنازل عن وطنه ومقدساته.
كأنه لا يكفي الشعب الفلسطيني ممارسات الاحتلال الإسرائيلي البغيضة وعدوانه المستمر، فجيشه وقواته الأمنية تجتاح يومياً مدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية، تعربد وتعيث فساداً فيها، تعتقل وتقتل وتدمر وتهدم وتخرب، ولكنها تدخل إليها بعلم السلطة وبالتنسيق المسبق والدقيق مع أجهزتها الأمنية، التي تسهل دخولهم وتؤمن خروجهم، وتمنع عناصرها من التشويش عليهم أو تعطيل مهمتهم، وتعاقب كل من يخالف أوامرها ويطلق النار عليهم، وتسكت عن جرائم العدو إن قتل عناصرها الأمنية أو اعتدى عليها.
لا أدري كيف ستخرج السلطة الفلسطينية هذه المرة من أزمتها، وكيف ستستر فضيحتها وتواري سوءتها، فحجم جريمتها كبير، والشهادة على سوء فعلتها كثير، ولعلها تخطئ كثيراً إن ظنت أن دم نزار سيجف، وأن صوته سيصمت، وأن نقده سيتوقف، أو أن معارضته ستنتهي، وما علم قاتلوه أنه سيكون عليهم لعنةً تطارهم، وشبحاً يرعبهم، وضميراً يؤلمهم، وسيفاً مسلطاً على رقابهم، وأنه سيكون عليهم وبالاً لا يتوقعونه، وفتحاً لمئاتٍ أمثاله لا يطيقونهم، وكأنني أراه طفل الاخدود الخالد في قرآننا، أرادوا قتله لتموت دعوته وتنتهي قضيته، وتآمروا عليه ليسكتوه ويرتاحوا منه، إلا أن دعوته سمت ورسالته بقيت، وأعداءه ذهبوا واندثروا، وما بقي منهم لا اسم ولا رسم، ولا فعلٌ ولا أثر.
ويلٌ لها السلطة الفلسطينية وقيادتها، وعارٌ عليها وعلى رئيسها، وسحقاً لحكومتها ورئيسها، والخزي لها ولأجهزتها الأمنية، وتباً لضباطها الأمنيين وقادتها الفاسدين، فهم جميعاً شركاء في هذه الجريمة النكراء، وعنها سيسألون وسيحاسبون، فلا براءة لأحد، ولا صمت عن أي مسؤولٍ، ولا قبول لأي حجةٍ أو تبريرٍ، ولا طي لصفحة الجريمة، ولا إحالة لها لأي لجنة تحقيقٍ وهمية، ولا لأي معالجة شكلية، فلا تنطلي علينا حججهم القديمة ووسائلهم الخبيثة، التي يطوون فيها جرائمهم ويسترون بها عيوبهم، وينسون الشعب بجديد جرائمهم، بل ينبغي على الشعب معاقبتهم بشدةٍ ومحاسبتهم بلا رحمةٍ، والإصرار على استقالة كبيرهم وصغيرهم، فلا مكان لهم بيننا، ولا سيادة لهم علينا، ولا سمع ولا طاعة لهم منا.
رحمة الله عليك نزار، يا صاحب الصوت الصادح والكلمة الحرة، والموقف الجريء والتحدي الصارخ، أيها القابض على الحق كجمرة، والثابت في الأرض كشجرة، والباقي فينا فكرةً وثورةً، والخالد فينا روحاً ونفساً، واعلم أن كلماتك ستبقى حيةً فينا، وصوتك سيبقى مجلجلاً بيننا، وغرسك معنا سيثمر خيراً وصلاحاً، ودمك سيروي أرضنا صدقاً وإخلاصاً، وسيأتي من بعدك رجالٌ يحملون الراية ويواصلون المسيرة توفيقاً وفلاحاً، فدعوتك يا نزار لن تموت، وجمرك لن يُخمد، ونارك لن تُطفأ، وثورتك لن تهدأ، وفكرك لن يموت، وستفرح يوماً وشعبك بالنصر ولو بعد حين.