السلطةُ الفلسطينيةُ تخطبُ سلفاً ودَ الإدارةِ الأمريكيةِ الجديدةِ
السلطةُ الفلسطينيةُ تخطبُ سلفاً ودَ الإدارةِ الأمريكيةِ الجديدةِ
بقلم || د. مصطفى يوسف اللداوي
مجاناً دون ثمنٍ، وطواعيةً دون قهرٍ، وتسليماً دون ضماناتٍ، وعبطاً دون سؤال، قامت السلطة الفلسطينيةُ فجأةً ودون مقدماتٍ، بالإعلان رسمياً عن عودة العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وعودة التنسيق الأمني المشترك بين أجهزتها الأمنية، وقبولها استعادة أموال المقاصة التي امتنعت عن استلامها، ورفضت الخضوع للشروط الإسرائيلية المهينة حينها، ولكنها فجأةً تراجعت عن الكثير مما راكمته، وتنازلت عما ادَّعت التمسك به والحفاظ عليه، وعادت إلى المربعات الأولى التي يرفضها شعبنا ويدينها، ولا يقبل بها ولا يوافق عليها، والتي عانى منها وضحى، وتألم منها وشكا، وذاق مرارتها واكتوى بنارها، وطالب سلطته كثيراً بالمفاصلة مع العدو وعدم الاعتراف به والتعامل معه، وبوقف التنسيق معه والثقة فيه.
لقد أحبطت السلطة شعبها، وانقلبت على القوى والفصائل التي التقت بها واتفقت معها، وأفشلت حواراتها، ووأدت محاولات إنهاء الانقسام ومساعي بناء قواعد الوحدة، وتنكبت لما وافقت عليه وتراجعت عما تفاهمت عليه، فقتلت الأمل وقضت على فرص الاتفاق الذي بدا قريباً وممكناً، وجردت المتفاوضين في القاهرة من الأوراق التي يتحاورون حولها ويتفاوضون عليها، ولعلهم يضطرون الليلة إلى حزم أمتعتهم ومغادرة نزلهم، والعودة من حيث أتوا بخفي حنين، خاوي الوفاض، ينكثون غزلهم، ولا يملكون ما يفاخرون به أو يزفونه إلى شعبهم، فقد نكثت السلطة وعدها، وحنثت في قسمها، وعادت تَلِغُ من الوعاء النجس الذي دنسها.
يستغرب الفلسطينيون لماذا أقدمت سلطتهم الوطنية على هذه الخطوة، وما الذي دفعها إليها، خاصةً أنها تأتي في الوقت الذي تخوض فيه مع شركائها في الوطن معركة الوحدة، وتخطط وإياهم سبل النجاة ومسالك الوفاق، وخيارات تقرير المصير، وتتهيأ معهم لانتخاباتٍ تشريعية ورئاسية وأخرى للمجلس الوطني الفلسطيني، وقد صدقوها وأيدوها، واتفقوا معها وتعاونوا وإياها بعد أن أبدت انحيازها إلى خيارات الشعب وثوابت الوطن، وأبدت تصميمها على قطع علاقتها بالكيان ووقف التنسيق الأمني معه، بعد أن تأكد لديها كذبه وخداعه، ومراوغته وعدم جديته، وأن السلام معه وهمٌ وسرابٌ، وأن المفاوضات معه مضيعةٌ للوقت وخسارةٌ للوطن وإضرارٌ بالقضية.
فهل أن السلطة الفلسطينية صدقت وعود الإدارة الأمريكية الجديدة، وتنفست الصعداء بعد سقوط السابقة صاحبة صفقة القرن، فأرادت أن تقدم بين يدي جو بايدن وإدارته القادمة فروض الطاعة وآيات الولاء، وتسلمه أوراق القضية من جديدٍ، على أمل أنها تعارض صفقة القرن، وترفض الاستيطان وتصفه بأنه غير شرعي، وتؤيد حل الدولتين، ولا توافق على قرارات الرئيس ترامب فيما يتعلق بالقدس واللاجئين، وتأمل من الجديد أن يرضى عنها، ويعود إلى رعاية المفاوضات الثنائية بنوعٍ من المصداقية، ويتعهد بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ويعيد أوامر الصرف المالية للمؤسسات الفلسطينية المستقلة والمستشفيات والمشاريع الإنشائية والإنمائية التي جمد ترامب دعمها، وتوقف عن تمويلها.
أم أن السلطة الفلسطينية قد نضبت خزائنها، وشحت مواردها، وامتنع الكثيرون عن دعمها، فخشيت على نفسها من الإفلاس، وأصبحت عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها، أو دفع مرتبات موظفيها والعاملين معها، فأرادت بهذا القرار غير الحكيم، أن تنعش خزائنها، وأن تفي بحقوق موظفيها، وأن تستدر عطف الإدارة الأمريكية لتعيد ضخ الأموال إليها، وتشجع من تتبع سياستها وتلتزم أمرها، لتعود وتدفع ما اعتادت عليه ودأبت على المساهمة فيه، ونسيت السلطة أن الحرة تموت ولا تأكل بثدييها أبداً، وشعبنا الفلسطيني حرٌ شريفٌ، أبيٌ عزيزٌ، لا يقبل بغير الطاهر، ولا يأكل الخبائث، ولا يتطهر بالنجس، وقد أعيا المحاصرين له وهزم المتآمرين عليه.
أم أن السلطة صدقت بيني غانتس وآمنت به شريكاً لها، واعتقدت أنه الأفضل والأحسن، فقبلت نصحه وأخذت بمشورته، واستجابت إلى اقتراحه وأعطته الأوراق التي يريد، على أمل أنه سيكون هو رئيس الحكومة الإسرائيلية القادم، في حال ذهب الإسرائيليون إلى انتخاباتٍ جديدةٍ، يسقط فيها نتنياهو ويرحل، ويكسب فيها غانتس وحلفاؤه، وحينها يعود إلى طاولة المفاوضات، ملتزماً بحل الدولتين والسلام الشامل مع الدول العربية، وما علمت السلطة أن غانتس يستخدمها ورقةً لأهدافه، ويستغلها مطيةً للوصول إلى غايته، خاصةً بعد أن تخلى عنه حلفاؤه وتركوه، ووصفوه بالانتهازي الوضيع، وبالمتسول الصغير، الغر الذي يسهل خداعه بفتاتٍ يلقى إليه، وبوعودٍ كاذبةٍ تنطلي عليه.
لا أحد من الفلسطينيين، قوىً وأحزاباً، وفصائل وشخصياتٍ، وعامةً ومستقلين، يوافق على ما قامت به السلطة الفلسطينية، التي فاجأتهم وصدمتهم، وأقلقتهم وأخافتهم، ذلك أنهم لا يريدون أن يعودوا إلى ذات الساقية، يدورون حول أنفسهم في سرمديةٍ لا تنتهي، يجربون فيها المجرب، ويثقون فيها بمن كذبهم وخدعهم، وتآمر عليهم واشترك في انتهاك حقوقهم والعدوان عليهم، ولهذا ارتفعت الأصوات الناقدة والمعارضة، التي تدين السلطة وتندد بقرارها، وتطالبها بالعدول عنه وعدم الوقوع في شراكه من جديد، وإلا فإننا سنفقد المزيد من الوقت، وسنبدد الثمين من الجهد، وسنخسر الثقة بأنفسنا، وسنعمق اليأس في قلوب شعبنا، وقد نتسبب له في ردةٍ خطيرةٍ، لا يعود فيها قادراً على الثقة بأحد أو تصديق أي طرفٍ.
أخطأت السلطة الفلسطينية كثيراً، وضيعت الفرصة الكبيرة التي أتيحت لها، وفقدت طوق النجاة الذي ألقي إليها، وألقت بقربتها في انتظار السحاب، وعادت لتلقي بنفسها في البحر، وهي تعلم أنه بحرٌ هائجٌ مائجٌ، أمواجه عاتية وأنواؤه خطيرة، وأنها فضلاً عن أنها لا تحسن العوم ولا تعرف السباحة وسط الحيتان الكبيرة وأسماك القرش الخطيرة، فإنها تسقط في مياه بحرٍ لا قعر له، فهل تؤوب إلى رشدها، وتستعيد وعيها، وتدرك خطورة قرارها، فتتراجع عن اعترافها، وتتنصل من التزامها، وتبرأ إلى الله عز وجلٍ من جريمةٍ يستعيذ شعبها بالله السميع العليم من شرورها.