بقلم/ د. أسماء عبدالوهاب الشهاري
مما لا شك فيه أن اليمن وملفاته الساخنة والمتجددة تشغل حيزًا مهمًا في اهتمامات الرأي العالمي والشارع العربي والإسلامي، قد يكون العدوان الذي يوشك على إطفاء شمعته السادسة هو الأبرز، لكن هناك العديد من القضايا اليومية والتي قد لا يعلم الكثير من الناس أنها كلها تنضوي تحت لواء العدوان ومظلته وإن حاولت الاختفاء أو التستر حول مسميات أو شعارات مختلفة للتمويه والتشويش على الرأي العام، فإن كان العدوان هو الرأس فإن الكثير والأغلب من القضايا هي أذرع الأخطبوط والأيدي الخفية له والتي ما إن يتم قطع أحدها حتى تظهر أخرى على السطح، لكنها في النهاية تصب جميعًا في دائرة العدوان والاستهداف لليمن وشعبه الحر الأبيّ.
لا يخفى على أحد الجريمة البشعة التي هزت الشارع اليمني وقضَّت مضجعه مؤخرًا، إنها الفاجعة التي حلت بالشاب #عبدالله الأغبري من تعذيب إجرامي تمادى فيه الوحوش البشرية حتى أدت إلى استشهاده، وأقول هنا الشهيد، لأن كل من يقضي في سبيل قضية حقة وفي سبيل الدفاع عن الحرمات وعن الأرض أو العرض فهو كذلك، وهو يستحق أن يُشاد به وأن يصل الألم والحزن لمصابه ومصاب أسرته فيه إلى داخل كل بيت يمني.
استشهد عبدالله ولكن دماءه ومظلوميته انتصرت لقضيته، بل إن مظلوميته قد تحقق أبعد بكثير مما كان يحلم به أو يتمناه، فقد اكتشف عبدالله الذي حضر من مكان إقامته إلى العاصمة صنعاء بحثًا عن العمل، والذي يمتلك فطرة سوية وضميرًا حيًّا، أنَّ المحل الذي يعمل فيه لبيع وصيانة الجوالات والهواتف النقالة ما هو إلا وكر لحيوانات مفترسة وشياطين على هيئة بشر تتربص بزبائنها الذين تعتبرهم “فرائسها” لتنقض عليهم وتمارس طقوسها الشيطانية، تفاجأت العصابة أو المافيا من أن عبدالله لم يكن سهلًا في الانقياد للرغبات كما كانت تأمل ولم يشاركها ويتلذذ معها في جرائمها، فعندما انسلخت عن آدميتها نست أو تناست أنه لا يزال هناك أناس أسوياء لا يشبهونها، لم يتوقف الأمر عند عدم مشاركة الرجل لها، ولكنه فزع من حقيقة ما اكتشف ولم يقدر أن يخفي ذلك، وليس بصعب على أحد أن يكتشف حجم ما عرفه عبدالله من خلال التعذيب الجنوني والإجرامي وصولًا إلى القتل، وهذا يؤكد مدى خوف المتورطين منه، ومما عرفه أو حصل عليه، وهنا تسقط ورقة أخرى من أوراق العدوان، أو أنه وجب أن يتم إسقاطها لأنها غاية في الخطورة والإيذاء بل إن فعلها قد يتجاوز في أثره القنابل والصواريخ الأشد فتكًا وتدميرًا، فهي تندرج تحت الحرب الناعمة، ها هي تتكشف لنا كما تكشفت لعبدالله، إنها شبكات ومافيا أصحاب محلات بيع وصيانة الهواتف المحمولة، فمما تناقله أغلب الناس وشيع عن هذه العصابة بعد الحادثة والذي قد تكون احتمالية صوابيته كبيرة من خلال الشواهد والدلائل، أنها تعمل على الحصول على الوثائق والصور من الهواتف التي تؤخذها من زبائنها بغرض صيانتها، وبعد ذلك تعمل على ابتزاز الفتيات بما حصلت عليه من صور وقد يكون هذا الابتزاز في أعراضهن أو أموالهن، ومن المعلوم أنه عندما تقع الفتاة فريسة في يد عصابة مجرمة كهذه فكأنها وقعت في مستنقع من الرمال المتحركة وهنا ندرك حجم الكارثة.
تتكشف لنا الحقائق تباعًا من هذه الحادثة منها ما هو إيجابي ومنها ما هو أشد فجيعة وإيلامًا.
فكم أبهرنا سرعة تحرك الأجهزة الأمنية وإنجازها النوعي- الذي يضاف إلى سلسلة إنجازاتها اللا متناهية – في القبض على الجناة بعيد ساعات فقط من جريمة التعذيب والقتل لعبدالله، وهذا يشكل قاصمة للعدوان وأدواته التي تراهن في كل مرة على زعزعة الأمن الداخلي ليتسنى لها تحقيق مآربها بعد فشلها الذريع على جميع المستويات طيلة هذه السنوات، ومما يشير بقوة تورط العدوان وأدواته ووقوفهم خلف هذه الشبكات والمافيا، هو ظهور دعوات قوية في أوساط المجتمع وعبر جميع مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بسرعة القصاص من الجناة وإعدامهم، ومن بين أولئك أو أهمهم السفير الأمريكي، بل تخطى الأمر إلى الخروج في مسيرات ومظاهرات داخل العاصمة تطالب في الإسراع والتعجيل من تنفيذ الحكم بحق من قام بتعذيب الأغبري وقتله، وهنا تظهر عشرات علامات التعجب والاستفهام!؟
هذه المطالب غير واقعية لأنه لو لم يكن تم القبض على الجناة لكان من الطبيعي المطالبة بسرعة الإمساك بهم، ومن هنا يتضح أن رجال الأمن يستحقون الإشادة ولم يحصل من عندهم أي تقصير، لكن هذه المطالبات الحثيثة وخروج المظاهرات في وقت ومكان محددين يؤكد دون مجال للشك أن هناك جهات منظمة تقوم بذلك وتقف وراءه، يتفاعل معها الكثير من الناس بشكل عفوي ممن أفزعتهم الحادثة، لكن هذه الجهات غير عفوية ولا بريئة، لأن روح عبدالله وجراحاته تصرخ وبقوة مناشدةً رجال الأمن للكشف عن الحقائق كاملة وإيصال ما تمنى إيصاله لرجال الأمن وللفتيات وأسرهن وللمجتمع كل المجتمع.
لماذا هذه العجلة وإثارة الرأي العام حتى يتم الإسراع في القضية ودفن الحقائق مع الجُناة، في حين أن رجال الأمن يعملون بكل جدّ لمتابعة خيوط القضية والكشف عن الحقائق الغائبة والتفاصيل المرعبة من أوكار المجرمين ودهاليزهم.
من هنا تتجلى حقائق الحرب الناعمة الوجه الأشد قبحا للعدوان، الذي يستهدف المجتمع من الداخل ويسعى إلى إفساده دون هوادة وإيقاعه في الرذيلة حتى يسهل كسره والنيل منه، بعد التأكد من النيل من هويته وأخلاقه من خلال هذه العمليات الممنهجة وشبكات ومافيا الدعارة الإجرامية والتي تم الكشف عن العديد منها خلال سنوات العدوان والتابعة للعدوان والمنفذة لأجنداته، والتي تستغل نقاط الضعف في المجتمع والثغور التي بإمكانها التسلل منها وبث دمارها وسمومها المميتة بعيدًا عن الأضواء ودون أن يقاضيها أحد أو يعرف عن مصائبها.
وللتعرف على بعض النقاط والثغور التي قد تكون جزءًا لا يتجزأ من تكوين المجتمع أو عاداته، تعد فرصًا ثمينة للمسوخ البشرية، وتؤدي في النهاية إلى ما لا يُحمد عقباه؛ قد تكون هذه النقاط لا تشمل كل المجتمع ولكنها موجودة لدى الكثيرين منه كما أن ليس جميع محلات بيع وصيانة الهواتف النقالة ينطبق عليها كل ما تم ذكره لكن المتورطة منها، من هذه الأمور:
_ عادة الفتيات في التقاط الصور الشخصية والعائلية بجوالاتهن، وهي لا تعلم أنه حتى بعد حذف هذه الصور بالإمكان استرجاعها واستعادتها وبالأخص من المختصين في مجال برمجة وصيانة الهواتف، ورغم تكرر بعض القصص إلا أن الفتيات لا يتعظن أو يأخذن هذه الأمور على محمل الجد، وهنا وجب لفت انتباههن إلى مدى خطورة هذا الأمر، وعليهن تجنبه، أو عدم محاولة إصلاح وصيانة الهاتف في محلات بيع وصيانة الهواتف إذا حصل به عطل ما، لأنه هناك ناس مؤتمنين وشريفين ولكن ليس الجميع.
– في حال حصل تهديد أو ابتزاز من قبل أي شخص أو جهة يجب على الفتاة إخبار أهلها وأفراد أسرتها دون أي تأخير أو تردد أو خوف من ردة فعل الأهل، لأنه مهما كانت فستظل أفضل بكثير من أن تقع ضحية بيد عديمي الإنسانية الذين قد يبتزونها في مالها أو عرضها أو يوصلونها لما هو أسوأ ويدخلونها في مصائب لها أول وليس لها آخر.
– يجب على الأسر والأهالي التعاطي بإيجابية في حالة وقوع ابنتهم في موقف تهديد أو ابتزاز وأن يتفهموا الأمر ويعطوا الثقة للفتاة حتى يستطيعوا جميعا تدارك الأمر، ولكي تمتلك الشجاعة في الإفصاح لهم عن أي من هذه المشاكل في حال تعرضت لها، لأنهم إذا لم يعطوها الثقة ويتفهموا وضعها إذا تعرضت لأي من هذه المشاكل، فإنهم سيعرضونها أن تكون فريسة سهلة للمجرمين لاستدراجها وأن تصل الأمور إلى أسوأ المديات التي لا يمكن أن يتخيلوها.
– يجب في حال تعرض الفتيات لأي نوع من الابتزاز سرعة التوجه إلى الجهات المختصة والمعنية في الدولة وإبلاغها بالأمر حتى تتخذ إجراءاتها وتمنع المجرمين من الوصول إلى مآربهم ومخططاتهم القذرة.
– أن يكون هناك رقابة من رجال الأمن وكاميرات مراقبة وتفتيش دوري على الأماكن التي تعد حساسة ومرتبطة بأمن المجتمع وسلامته، مثل محلات بيع وصيانة الهواتف وأن توجد قوانين لتنظيم مثل هذه الأعمال، كما يجب إيجاد لوائح بالعقوبات في حال وجود أي مخالفات أو أي مما قد يكون مثيرًا للريب مما قد ينال من أمن المجتمع وسلامته وترابط كيانه دينيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا وعلى جميع المستويات من قبل الأمن ورجاله ويساعدهم في ذلك متخصصون مهنيون في هذا المجال.
– في حالة إبلاغ رجال الأمن عن أي حالة تعرضت لأي من هذه المشاكل يجب أن يكون التحرك سريعًا من قبلهم وهذا أمر واقع وواضح وملموس بفضل الله ومغاير لكل ما كان عليه الوضع قبل ثورة 21 سبتمبر – ويا حبذا أن يكون هناك رقم مجاني للإبلاغ عن أي مشكلة من هذا النوع على وجه الخصوص.
قد تكون هذه أهم النقاط، ولكن ما أحب الإشارة إليه في نهاية هذا المقال، هو أن الإنسانية كيان واحد مستقل غير قابل للتجزئة ولا للقسمة عليه.
ما أجمل الإنسانية، ولكن عندما لا تكون مُنتقاة، والانتقاء هو أن أكون إنسانًا أحيانًا، وأحيانًا أخرى أتجرد من كل معاني الإنسانية، بمعنى: أن أختار متى حلو لي أن أكون إنسانًا ومتى ألغي هذه الكلمة بكل معانيها وكأنه ليس لها أي وجود.
الإنسان بطبيعته أو الإنسان الطبيعي يتفاعل مع أي حدث أو موقف “لا إنساني”، حتى إذا كان مع من يختلفون معه في البلد أو اللغة أو حتى الديانة، طالما يعلم أن ذاك الموقف أو ذلك الحدث يتنافى مع الإنسانية وقيمها السامية وهذا يتوافق مع المقولة الشهيرة للإمام علي عليه السلام : “الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق “.
من الجميل أن يتحرك المرء لقضية مثل قضية #عبدالله_الأغبري التي يمتعض ويهتز لها كل شهم غيور، ونحن نؤيد ذلك ونقف معه؛ لأنها قضية مبادئ وقيم وعرض وشرف، لكن من غير الطبيعي بل ومن العجيب والمستهجن أن تولد الإنسانية فجأة من العدم وتجري في دماء من ليس لهم مبدأ ولا يتحركون ضد أي باطل، فلم يحركهم العدوان بكل صلفه وجرائمه بحق بلدهم وأبناءه طوال هذه السنوات، وليس لهم أي اهتمامات أو قضايا يتبنونها على مستوى الدين ولا الأمة مثل القضية الفلسطينية وتسابق الأنظمة الخليجية في التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب ولا غيرها من قضايا الأمة المحقة والعادلة، ولم تحركهم أي مجزرة في بلدهم ولا قصص الشهداء ولا الأسرى من أبناء وطنهم الذين ينعمون بفضل جهودهم وتضحياتهم وهم بالمئات، فكم من قصص أسرى تشيب لها رؤوس الولدان ممن قدموا أنفسهم للتضحية فداءً للوطن وأبناءه لم تحرك فيهم شعرة ولا ساكنًا، وليس لها عندهم أي اعتبار، باختصار راجعوا أنفسكم يا سادة فالإنسانية لا تتجزأ، ولم نسمع عن ربع إنسان أو نصف إنسان، إما أن تكون إنسانًا أو لا تكون.