تعثر العلاقات السعودية الباكستانية.. توترٌ أم عودة اصطفاف؟!
تعثر العلاقات السعودية الباكستانية.. توترٌ أم عودة اصطفاف؟!
شهارة نت – تقرير/ فاروق محافظ
يتمتع كلاً من السعودية و باكستان بعلاقاتٍ استراتيجية تاريخية منذ اعلان استقلال الأخيرة عام 1948م، حيث ازدهرت هذه العلاقة على كافة الأصعدة السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الثقافية بين البلدين و أمّنت فيها السعودية دعماً ضخماً لاستمرارها على مدى عقودٍ مضت. الحاضر الأن و بعد تصريحات وزير الخارجية الباكستاني مطلع أغسطس الحالي التي هاجم فيها السعودية بشأن سكوتها عن قضية كشمير و عدم تلبية دعوة باكستان إياها لعقد جلسةٍ طارئة لمنظمة التعاون الإسلامي، هو شواهد تعثر هذه العلاقة بشكلٍ نسبي و تهديد وزير الخارجية للاستعانة بدولٍ إسلاميةٍ أخرى للوقوف معها.
يبلغ التعداد السكاني لباكستان ما يقارب 197 مليون نسمة، 80% منهم من المسلمين السنة، فيما تعتبرثاني أكبر بلدٍ للمسلمين الشيعة بعد إيران بما نسبته 17% من إجمالي عدد السكان. و قد أضاف هذا الأمر عاملاً مهماً لتقوية السعودية علاقتها مع باكستان، فقد استهدفت الأغلبية السنية ثقافياً منذ ثمانينيات القرن الماضي عبر بناء مساجد و معاهد دينية و مراكز ثقافيةٍ وهابية.
على الصعيد السياسي فقد جمع البلدين موقفهما المشترك من الاجتياح السوفييتي لأفغانستان 1979م، و وفرت السعودية الدعم المالي و العسكري للمجاهدين الباكستانيين في أفغانستان و دعمت موقفها، الأمر الذي سمح فيما بعدها بصنع نفوذٍ باكستاني في الداخل الأفغاني، كما أن وجهة النظر لدى النظامين مشتركةٌ لحدٍ كبير في الكثير من القضايا.
إقتصادياً، فإن مليوني باكستاني يعمل في المملكة العربية السعودية و يشكلون مصدراً أساسياً مهماً لتغطية احتياجات البلاد من العملة الصعبة، و قد اظهر ولي العهد السعودي طمأنته لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان بازدهار هذا الجانب بقوله اثناء زيارته العام الماضي أن يعتبره كسفير باكستان في السعودية، إلى جانب إمداد السعودية باكستان بتسهيلاتٍ نفطية تبلغ 3.2 مليار دولار، و قد بلغ حجم التجارة ما يقارب 3.6 مليار دولار سنوياً بالإضافة إلى مجموعة قروضٍ متفاوتة في مراتٍ عديدة ساهمت بإنقاذ الإقتصاد الباكستاني، تقدمها السعودية مع استثماراتٍ اقتصادية في مجالاتٍ عدة.
رغم المستوى العالي لهذه العلاقات فإن تصريحات وزير الخارجية الباكستاني الأخيرة التي انتقد فيها مواقف السعودية تجاه القضايا الباكستانية تظهر وجود توتراتٍ بعيدة الأمد لم تعد تحتمل البقاء ضمن الغرف المغلقة، و بالخصوص ما سبقها من ظغوط إقتصادية مارستها السعودية مؤخراً على الباكستانيين.
عوامل تعثر العلاقة
إن عوامل تعثر العلاقة السعودية الباكستانية ليست مجرد ردود فعلٍ لموقفٍ منفرد، و إنما تعتبر نتيجةً طبيعيةً للكثير من العوامل و المؤثرات التي ساهمت – و مازالت – في تقويض العلاقة بين البلدين و وصولها إلى مستوى تبادل الرسائل العتابية العلنية.
– التحديثات السعودية
يؤيد الكثير من الباكستانيين المملكة العربية السعودية بصفتها كدولةٍ إسلامية و ما تحمله من رمزيةٍ بشأن وجود الأماكن المقدسة على أراضيها، و لكن السعودية التي بقيت ترسل بعثاتها الدينية لباكستان لتصدير الوهابية هي ليست نفسها السعودية اليوم. التحديثات السعودية الأخيرة و إن أحس النظام السعودي بضرورتها بالنسبة له إلا أنها تفقده مشاعر التعاطف الإسلامي العالمي مع المملكة و تغير وجهة نظرهم حولها، فما قامت به المملكة من نشر الفكر المتطرف في ربوع المنطقة و العالم لا يمكن لها ان تتخلى عنه في ليلةٍ و ضحاها دون أن يكون لذلك أثاراً سلبيةً عليها و مدمرة.
و بالتأكيد فإن إسلام أباد الإسلامية التوجه و الايديولوجيا هي الأخرى ممتعضةٌ من هذه التحديثات و إن لم تجرؤ الأن على التعبير عن ذلك، في الوقت الذي مازالت تمول فيها السعودية المراكز الوهابية في باكستان و العالم. و في كل الأحوال، فإن وجود عوامل أخرى مؤثرة على العلاقة بين البلدين يمكن أن تجعل من هذا العامل مؤثراً مباشراً عليها.
– مقارنة المنافع
واحدةٌ من القضايا الرئيسية التي أجبرت إسلام أباد على نقل التوترات الحاصلة مع السعودية للعلن هي إحجام السعودية عن التدخل في قضية كشمير، الإقليم الذي أعلنت الهند قبل عامٍ سحب حق الحكم الذاتي منه، مراعاةً للعلاقة السعودية مع الهند، حيث تعي المملكة مقدار المنافع التي تتحصل عليها في علاقتها مع الهند حيث وصل حجم التجارة مع الأخيرة إلى ما يقارب 27 مليار دولار سنوياً في حين قد لا تتحصل على شيءٍ قابل للمقارنة إقتصادياً في العلاقة مع إسلام أباد غير تقديم الرياض المساعدات للأخيرة في الغالب لقاء مواقف سياسية.
و قد أصبحت إسلام أباد تعي هذا الأمر الذي فضلت فيه الرياض التخلي عن حليفها الباكستاني في واحدة من أكثر القضايا حساسيةً بالنسبة لباكستان للحفاظ على علاقاتٍ اقتصاديةٍ جيدة مع الهند، حيث خرج عمران خان قائلاً أنه يجب علينا ان لا نتوقع وقوف السعودية إلى جانبنا، فهم لديهم سياسةٌ خارجيةٌ خاصة.
السعودية أيضاً و مع خيباتها المتكررة في هذه العلاقة ترى بأنها تقدم الكثير دون أن تحصد شيئاً في المقابل، على العكس من علاقاتها مع الهند، و لذا يبقى هنالك احتمالٌ في ذهابها أبعد من ذلك بشأن العلاقات مع باكستان و خصوصاً بعد حدوث شواهد تدل على ذلك كإيقاف تجديد تسهيلات نفطية بعد انتهائها 2018م، و مطالبتها سداد قرضٍ بقيمة ثلاثة مليارات دولار.
– خيباتٌ متكررة
على الرغم من الأمال العريضة التي علقتها الرياض في علاقتها مع إسلام أباد خلال العقد الحالي، واجهت المملكة خيبات أملٍ متكررة على الرغم من دعمها المستمر إقتصادياً لباكستان، ففي أواخر مارس/ أذار 2015م، شكلت المملكة العربية السعودية تحالفاً عسكرياً للدخول في حربٍ لحل الأزمة اليمنية و دحر جماعة أنصار الله، المقربة من إيران، لإعادة الرئيس هادي للسلطة بعد فراره. كانت قد أعلنت الرياض مسبقاً و على عجالةٍ من أمرها، كما كان هو قرار دخولها الحرب في اليمن، باكستان عضواً في هذا التحالف و أعلنت مشاركة الأخيرة بما يقارب 30 ألف جندي قابلٍ للزيادة، و هو الأمر الذي لم يلبث أياماً معدودةً لتفيق الرياض على خيبةٍ لم تكن في الحسبان بعد نفي إسلام أباد مشاركتها و عدم الوفاء بوعودها السابقة بشأن التحالف العسكري.
في موقفٍ أخر و في منتصف كانون الأول، أعلنت السعودية تشكيل تحالفٍ إسلاميٍ عسكري لمكافحة الإرهاب، يضم واحداً و أربعين دولةً إسلامية تحت إشراف المملكة العربية السعودية، استثنت منه إيران و العراق و سوريا. الأمر الذي ترك تحفظاً لدى الباكستانيين بعد ترحيبهم بالمبادرة و طلبهم تحديد حجم المشاركة في هذا التحالف، خصوصاً بعدما طاله انتقاداتٌ واسعة من قِبَل طهران و حزب الله.
– محاولة صنع علاقاتٍ متوازنة
تقع باكستان على الجنوب الغربي من الجمهورية الإسلامية إيران، ما يجعل أمر تشارك علاقاتٍ جيدة بين البلدين أمراً مهماً لدعم استقرارهما و جني الفوائد الاقتصادية خلف ذلك، بالإضافة إلى أن التأثير الإيراني على الشيعة الباكستانيين البالغ نسبتهم ما يقارب 17% من مجموع السكان يستوجب بناء علاقاتٍ جيدةٍ مع طهران، و تعي إسلام أباد أهمية هذه العلاقة بالنسبة لها، و لذلك فقد سعت في أكثر من موقفٍ لصنع مواقف متوازنة تجاه القضايا التي تمس قضايا حساسة تتنازع فيها الرياض و طهران، كحرب اليمن و التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى محاولتها الأخيرة في التوسط بين طهران و الرياض.
تكاد تكون النزاعات الحدودية شبه منعدمة بين إيران و باكستان، كما تربط البلدين خط سكةٍ حديديةٍ و يحتاج كلٌ منهما الأخر لتطوير قطاع التجارة الضعيف بين البلدين البالغ ما يقارب نصف مليار دولار سنوياً فقط، رغم وجود الأرضية لازدهاره.
على الجانب الأخر مارست السعودية و الولايات المتحدة ضغوطها مراراً بشأن مشروع مد أنبوب الغاز عبر الأراضي الباكستانية للهند و جعلت باكستان تقع تحت تهديد دفع غرامة التأخير رغم احتياجها الشديد للغاز الإيراني، حيث أن اتفاقية المشروع البالغ تكلفته أكثر من 7.5 مليار دولار سيمد باكستان ب 21.5 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني يومياً لمدة 25 عاماً.
و لهذه الأسباب و غيرها تحاول إسلام أباد صنع علاقاتٍ متوازنةٍ مع الفرقاء في المنطقة، رغم أن محاولاتها هذه أحبطت مراراً بضغوطات الرياض، و التي أشار إليها وزير الخارجية الباكستاني قريشي بقوله ان بلاده كانت تتوقع دعوة السعودية لاجتماعٍ خاص بشأن قضية كشمير، خصوصاً و أن باكستان لم تشارك في قمة كوالالمبور، مشيراً بذلك إلى أن سبب تخلف باكستان المفاجئ بعد زيارة الرياض عن قمة كوالالمبور التي جمعت إيران و تركيا و قطر و ماليزيا أواخر ديسمبر/كانون الأول 2019م كان برغبةٍ و ضغطٍ سعودي.
هذا يترك إسلام أباد تحت خيار الإنحياز وحده في علاقاتها الخارجية مع الرياض و طهران، و يحبط أمالها في صنع علاقاتٍ متوازنة مع البلدين.
– العلاقة الصينية الباكستانية
الصين، صديق كل الفصول كما يصفها خان، تبني علاقاتٍ أكثر من جيدةٍ مع باكستان و قد تعمل إلى حدٍ ما على تعويض الفراغ الإقتصادي الذي يتركه أي انسحابٍ سعودي إذا ما تطور التوتر الحالي لمستوى قطع العلاقة و تحولها للأسوء، و لكن هذه العلاقة تشكل عاملاً مهماً في تعثر العلاقات مع السعودية و الولايات المتحدة.
من جهةٍ ما، تعتبر الصين الصديق الأكثر أهميةً بالنسبة لباكستان، فهي تشكل داعماً مهماً لإسلام أباد في مسائل الدفاع و تطوير محطات و مشاريع الطاقة النووية الباكستانية بالإضافة للكثير من مشاريع البنية التحتية التي تقوم بها الصين و حجم التجارة الضخم عام 2017م ما يقارب العشرين مليار دولاراً في السنة بشكل قابلٍ للإزدياد سنوياً، كما تصل البلدين شبكة سكك حديدٍ و طريق كاراكورم السريع المار عبر سلسلة جبال كراكرم الواصل بين البلدين، بالإضافة لمشروع ميناء غوادر على مياه بحر العرب.
بالرغم من أن هذه العلاقة تثير سخط الولايات المتحدة على باكستان، إلا أن أكثر ما يثير مخاوف السعودية هو هو مشروع طريق الحرير و ميناء غوادر الباكستاني الذي يشكل تهديداً حقيقياً لدور دبي الإقتصادي العالمي، الحليف و الجار الأقرب للملكة العربية السعودية، من حيث حلوله محل موانئ دبي كبوابةٍ للتجارة الصينية و العالمية للخليج و الشرق الأوسط و العالم، بالإضافة لتهديد مدينة جوادر لدور مدينة دبي كقبلةٍ عالميةٍ للتجارة الحرة.
من جهةٍ أخرى فإن ميناء غوادر يتضمن مرفق غازٍ طبيعيٍ مسال عائم سيتم بناؤه كجزءٍ من مشروع خط أنابيب الغاز الإيرانية الباكستانية. يعتبر نجاح هذا المشروع مقلقاً بالنسبة للولايات المتحدة و السعودية من حيث المنافع الإقتصادية التي ستحققها طهران من وراء ذلك و أثره على نجاح العقوبات الأمريكية عليها و تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة.
هذا يترك المصالح السعودية الباكستانية في نقطة تقاطع تهدد علاقتهما كلياً ، و خصوصاً مع انتقال الصراع الخليجي للضفة الأخرى من اسيا و مشاركة قطر بما نسبته 15% من مشروع الميناء أملةً إضعاف دور دبي الإقتصادي.
توترٌ مؤقتٌ.. أم عودة اصطفاف
مع أن الكلام مبكرٌ على القول بإعادة اصطفاف و انتقاء كلٍ من السعودية و باكستان لأصدقائها، إلا أن الأطراف الأخرى تنتظر إسلام أباد بعربون صداقةٍ جديدة يخرجها إلى حدٍ ما من حرج الشتات بين مصالحها المتوزعة بأيدي الفرقاء في المنطقة و أسيا، و لكن لا يمكن أيضاً إهمال الدور الأمريكي في هذه العلاقة و مدى قدرة إسلام أباد على تحمل الوقوف على الطرف الأخر من الخندق أمام واشنطن، بالإضافة إلى امكانية تعامل السعودية معها على مبدأ “إن لم تجن خيره، فلتسلم شره”.
العلاقة متعثرةٌ بشكلٍ جدي بين البلدين و قد تدخل بينها التجاذبات و الإغراءات الإقليمية لتحديد مستقبلها، و الأيام القادمة حبلى بالمفاجأت.