غزاويةٌ تُعَبِّدُ طريقَها إلى غزةَ بالتضامنِ مع بيروت
غزاويةٌ تُعَبِّدُ طريقَها إلى غزةَ بالتضامنِ مع بيروت
بقلم: د. مصطفى يوسف اللداوي
شَهدَتْ انفجارَ مرفأ بيروت، وشعَرَتْ به كما كل سكان مدينة بيروت وضواحيها، فقد كان انفجاراً ضخماً قوياً، مهولاً مزلزلاً لا سابق له ولا مثيل،
جَفَلتْ… اضطربت… خافت وأصابها الهلع والكثير من الفزع، رغم أنها قد اعتادت على أصوات الانفجارات، وعلى قصف الصواريخ، وغارات الطائرات، فأجواء الحرب ومشاهد الدمار، وحوادث الانتهاك والعدوان، ليست غريبة عليها أو صادمة لها، فهي كغيرها من سكان غزة، قد اعتادت على مثل هذه الانفجارات المدوية التي تسببها صواريخ العدو المدمرة،
لكن انفجار مرفأ بيروت يختلف… فهو جديدٌ عليها شكلاً وحجماً وأثراً، وبيروتٌ مدينةٌ آمنةٌ مطمئنةٌ إلا من اعتداءات إسرائيل واختراقاتها المستمرة لأجوائه وسيادته،
قد أرعبها ارتجاج الأرض، واهتزاز المباني، وخروج الناس إلى الشوارع خوفاً من زلزالٍ متوقعٍ، وهالها صوت الانفجار الأول، وكتلة اللهب الحمراء المتصاعدة، كما أذهلها الانفجار الثاني الذي شكل سحابةً بيضاء كبيرة، تشبه فطيرة انفجار القنبلة الذرية، وأحست بالخوف الشديد إذ رأت سحائب الدخان المتعدد الألوان تغطي سماء بيروت،
أفاقت من هول الصدمة، وانتبهت إلى ما أصاب بيروت، لم تعرف كنهه ولا طبيعته، ولم تحدد ما هيته أو هويته، ولكنها أدركت أنه انفجارٌ أو غارةٌ، قصفٌ أو عدوان، شيءٌ غريب قد أصاب لبنان، فهز أركانه، وصدع بنيانه، وأرعب أهله وسكانه،
أسرعت حيث أمها وأخواتها، اطمأنت إليهم أنهم معها، يرقبون ما حدث، ويتابعون ما يجري، وأنهم رغم الانفجار الذي وقع فإنهم بخيرٍ، وإن انتابهم الخوف والفزع،
بسرعةٍ التفتت إلى قطتها فالتقطتها واحتضنتها، وقد خشيت أن يكون قد أصابها مكروهٌ أو لحق بها ضرر، فالحدث جللٌ والانفجار ضخمٌ، واستعدت لحملها معها إن تطلب الأمر فراراً مع العائلة من مكان الانفجار، إذ بدا لها لقوته قريباً، فخشيت أن يصيب قطتها العزيزة على قلبها سوء، وهي التي ما عرفت غير بيتها منذ خلقت، وما نزلت إلى الشارع منذ أن فتحت عيونها على الحياة، فحملتها بين يديها واطمأنت إلى أنها في أمانٍ معها،
سكن الصوت وهدأ الروع، وتراجعت ألسنة اللهب، وانقشع الغبار، وتبدد السحاب الأبيض والأسود، وانكشف ليل بيروت عن دمارٍ مهولٍ وخرابٍ كبيرٍ، أصاب بيوتها ومرافقها وشوارعها وحدائقها وسياراتها، وأتلف زينتها وخلع أشجارها، وعاث خراباً في كل أنحائها،
استفاق الجميع على ما حدث، تفقدوا أنفسهم وأحبابهم، جمعوا صورهم وراجعوا تسجيلاتهم، فوجدوا أن الكثير من أحبتهم قد قتلوا، وأضعافهم قد أصيبوا وجرحوا، وحط بهم القلق والخوف على عشراتٍ آخرين قد فقدوا وغابوا، إذ أنهم ليسوا بين الأحياء شهوداً، ولا هم بين الجثث شهداءً،
فوراً تشكلت فرقٌ شعبية للإنقاذ، وهبت لجان وطنيةٌ للمساعدة، ضمت بين صفوفها متطوعين من سكان لبنان وطوائفها ومناطقها، ومعهم لفيفٌ كبيرٌ من الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، اصطفوا جميعهم وتوزعوا على المناطق، يحملون بأيديهم مكانس ومعاول ومجارف، وأكياس لجمع الركام والحطام، وبلاستيك لإغلاق النوافذ التي تكسر زجاجها وتفتت،
كانت تنتظر بشغفٍ أن يفتح معبر رفح لتعود إلى غزة، تتابع الأخبار وتشترك في مجموعات التواصل الاجتماعي، علها تسمع أن معبر رفح قد فتح، لتعود إلى غزة بعد طول غياب،
جمعت ثيابها وحزمت حقائبها، واطمأنت إلى جواز سفرها وأوراقها الرسمية، ووضعتهم جانباً انتظاراً ليومٍ يفتح فيه المعبر وتعود، إلا أن الأيام قد طالت، وفاجعة كورونا قد طغت وتجبرت وتحكمت، فأغلقت المغلق وحاصرت المحاصر، وباعدت بين الناس جميعاً، وزادت في معاناتهم وآلامهم،
أصرت على أن تلتحق مع المتطوعين وأن تعمل معهم وإلى جانبهم، تزيل الحطام وترفع الركام، وتنظف الشوارع، وتكنس الطرقات، وتساعد في تضميد جراح السكان،
اتصلت بالفرق المتطوعة، وسجلت اسمها معهم، والتحقت بهم، وكلها أمل أن تساهم بالقدر الذي تستطيع في لملمة ما تناثر من بيروت، والتضامن مع أهلها، وتخفيف معاناة المكروبين من سكانها،
التحقت بمجموعات العمل وهي فرحةٌ سعيدةٌ، تقف إلى جانب أترابها من اللبنانيين والفلسطينيين، الذين انبروا متطوعين فرادى وزرافاتٍ، فدخلت رأس النبعة ومنطقة الجميزة المدمرة، والأحياء المجاورة للمرفأ، وتلك البعيدة عنه، التي أصابتها حمم الانفجار وعصفه المهول،
أعلنت وسائل الإعلام الفلسطينية الرسمية والشعبية أن معبر رفح سيفتح، وعلى الراغبين في العودة أن يكونوا بعد ساعاتٍ في القاهرة، إذ أنها البوابة الوحيدة التي تربط غزة بالعالم،
ألقت مكنستها، وأعادت ربط الأكياس التي جمعت فيها ما استطاعت من ركام البيوت وآثار الدمار، وحطام المحال وزجاج النوافذ والشرفات، وسلمت أمين اللجنة عهدتها وأنهت مهمتها التي كلفت بها، وعادت على عجلٍ إلى بيتها، وما زالت ثيابها مغبرة بتراب بيروت، وفيها رائحة بيوتها المدمرة، وشوارعها التي فقدت زينتها،
كانت قد جمعت ثيابها في حقيبة، وركنتها جاهزةً في زاويةٍ من البيت، تنتظر اليوم الذي يفتح فيه المعبر، إذ أنه يفتح فجأةً كما قد يغلق طويلاً فجأةً،
التقطت جواز سفرها ومحفظة أوراقها الرسمية، وأسرعت الخطى نحو مطار بيروت، وهي خائفة ألا تدرك المعبر المعدودة ساعات فتحه، والشاقة الوعرة الطويلة العسيرة طريقه،
أدركت رحلتها وركبت طائرتها وغادرت بيروت إلى القاهرة،
سعدتُ جداً أنها حققت ما تريد، وأثبتت أن الخير كل الخير في أجيال هذه الأمة، فقد تمنت أن تساهم قبل عودتها إلى غزة في إعادة الأمل إلى بيروت وأهلها، وأن يكون لها دور معهم، فكان لها ما تمنت، عملت وشاركت، جمعت ونظفت، وحزنت وبكت، وواست وصَبَّرت، وها هي تغذ الخطى بأملٍ، وتصبر على المشقة برجاء، لتصل إلى أرض العزة والكرامة… غزة، ولتعود بيروت كما كانت بهيةً زاهيةً، جميلةً نظيفةً،
تلك هي ابنتي هدى…