بقلم / د. مصطفى يوسف اللداوي
يتابع الإسرائيليون قلقهم ويسلطون الضوء على المزيد من مخاوفهم، فيرون أن الضم سيخلق إسرائيل جديدة، بمساحةٍ أكبر وحدودٍ أوسع بكثير، وذلك بالنظر إلى حدود المستوطنات المبعثرة، وحدود الجدار الأمني المتعرج، والطرق الالتفافية الممتدة وغيرها، الأمر الذي يعني زيادة الكلفة المادية، ومضاعفة الجهود الأمنية لحماية وحراسة الحدود الجديدة، التي كانت تسهر عليها السلطة الفلسطينية، وفقاً لتفاهمات التنسيق الأمني المشترك بين الطرفين، ولكن الواقع الجديد سيجعل من المهام الأمنية تحدياتٍ إسرائيلية جديدة، خاصةً في ظل زيادة نقاط الاحتكاك والاشتباك مع الفلسطينيين، واحتمالات بقاء عشرات آلاف الفلسطينيين في المناطق التي سيشملها الضم.
هذا الواقع الجديد سيعيد الصراع مع الفلسطينيين إلى المربعات الأولى، التي يسود فيها العنف والتطرف، وتشيع فيها ثقافة المقاومة ووسائل الاشتباك المختلفة، وتنعدم فيها فرص بناء الثقة والتعايش المشترك، الأمر الذي من شأنه أن يقوي تيار التطرف والتشدد لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، حيث ستنشأ لدى كل طرف قوى منظمة تعمل على تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها بالقوة والعنف، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إعادة الاعتبار إلى خيار المقاومة، والتخلي عن كل الخيارات السلمية الأخرى.
كما يعيب هذا الفريق على الحكومة الإسرائيلية عدم التفاتها إلى الجانب الاقتصادي المرير الذي سيعيشه الفلسطينيون، الذي لن يستمر طويلاً عبئاً على الاتحاد الأوروبي والمساعدات الدولية، في ظل غياب أفق خلق اقتصاد وطني وأسواق محلية قادرة على استيعاب العمالة الفلسطينية المتزايدة، هذا يعني زيادة نسبة البطالة، وارتفاع مستوى الفقر، وتزايد معدلات اللجوء إلى العنف، وإذا أُخذ في الاعتبار وباء كورونا الذي قد يطول موسمه، فإن هذا يعني أن إسرائيل ستخلق مجتمعاً فلسطينياً موغلاً في الفقر والفاقة، وغارقاً في المرض والحاجة، وقد يكون حال التجمعات الفلسطينية الجديدة أكثر بؤساً من حالهم في قطاع غزة.
ومما يحذر منه هذا الفريق أن إسرائيل ستواجه أزمةً دوليةً كبيرة، وستخلق لها مجموعة جديدة من المعارضين الدوليين بسبب سياساتها التوسعية، وقد ظهرت إشاراتٌ أوروبية وروسية وصينية وغيرها، تدل على رفض المجتمع الدولي الاعتراف بالإجراءات الإسرائيلية، وتأكيد مبدأ عدم شرعية المستوطنات، وعدم جواز مصادرة أراضي الفلسطينيين، ورفض أي إجراء إسرائيلي أحادي الجانب من شأنه أن يهدد فكرة حل الدولتين.
علماً أن الحكومات الأوروبية قد قطعت شوطاً كبيراً في سياسة مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية، وفرضت عليها عقوباتٍ اقتصاديةً وفنية وثقافية وعلمية، وليس من المستبعد في حال تنفيذ الحكومة الإسرائيلية لتهديداتها، أن توسع أوروبا من دائرة عقوباتها لتشمل قطاعاتٍ أوسع وكياناتٍ إسرائيلية أكبر وأهم، فضلاً عن أن بعض الدول الأوروبية، ومنها بريطانيا، تهدد أحياناً باستخدام حقها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذلك في مقابل عدم الاعتراف بشرعية ضم الأراضي الفلسطينية، فضلاً عن عدم شرعية المستوطنات المشادة على أراضٍ فلسطينية مصادرةٍ.
أما الجانب الخطر الذي يخشاه فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين، فهو تشويه صورة كيانهم، وتدمير مفهوم الدولة الديمقراطية التي تتميز بها إسرائيل عن جميع دول المنطقة، وتعزيز نظام الأبارتهايد –الفصل العنصري-، الذي لن تستطيع أي حكومة إسرائيلية أن تدافع عن نفسها في ظل إجراءات فرضه، والقوانين الصارمة في حفظ واقعه ومنع أي خلل أمني من جانبه.
كما أن الضم يعني إنهاء حلم الدولة اليهودية، وهو الهدف الذي عمل لأجله العديد من القادة الإسرائيليين، ذلك أن عملية الضم القانونية الواسعة، ستجبر إسرائيل على الدخول في خيارات الدولة الواحدة، التي تجمع بين اليهود والعرب في دولةٍ ديمقراطيةٍ واحدة، وحينها سيخلق الضم واقعاً قانونياً جديداً مختلفاً، يتعلق بطريقة التعامل مع السكان الفلسطينيين، واحتمالات منحهم الجنسية الإسرائيلية، في ظل عدم قانونية منحهم حق الإقامة، أو ترحيلهم قسراً خارج حدود الدولة الإسرائيلية الجديدة.
الضم سيعني حتماً نقل الاهتمامات الدولية من الملف الإيراني إلى الملف الفلسطيني، وانشغال الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتحديات الفلسطينية وصرف الأنظار عن التحديات الإيرانية، رغم أن التهديدات الإيرانية بالنسبة إلى الإسرائيليين جميعاً هي تهديدات وجودية، تتعلق بالأمن الاستراتيجي لهم، وباستمرار كيانهم، والاطمئنان على مستقبلهم، ولكن الضم سيخلق واقعاً دولياً جديداً قد يصرف الأنظار عن الخطاب الإسرائيلي التحريضي ضد إيران، وقد يخفف من حجم الولاء والتأييد الدولي للمطالب الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه فإن إجراءات الضم الإسرائيلية القاسية ضد الفلسطينيين، ستزيد في إقبالهم على الدول المتطرفة التي تعادي إسرائيل، والتي تقف إيران في مقدمتها، التي تبحث عن مختلف السبل لضعضعة الاستقرار الإسرائيلي، ودعم أي عملياتٍ أمنية تمس الكيان، وهذه الإجراءات الحكومية الإسرائيلية من شأنها أن تخلق مناخاتٍ مواتية لإيران ومحور المقاومة الذي يتشكل من قوى عدة تمتد من طهران حتى غزة، وليس من المستبعد في ظل إجراءات القهر والتجريد أن يتسع هذا المحور، ويجد له أصداءً أكبر لدى الجمهور العربي والفلسطيني.
لا تعني هذه التساؤلات والمخاوف الإسرائيلية أن الإسرائيليين قد يتراجعون عن مشروعهم، أو قد يرجئون فكرة الضم أو يلغونها، بل إن هذا الفريق يدعو حكومته للتفكير في العقبات، وتقدير التحديات، والعمل الجاد لإيجاد حلولٍ عملية لها، تتجاوز السلبيات وتتغلب على التهديدات، وتخلق حلولاً إبداعية إيجابية جديدة تخدم الدولة العبرية وتعزز مشروعها، وتحميها من مخاطر المستقبل وتهديدات الأعداء.
قد تسقط المخاوف الإسرائيلية مشاريع الضم، وقد تفشل حكومتهم في تنفيذ ما خططت له سنين طويلة، وقد يعجز نتنياهو عن تتويج تاريخه السياسي بعملٍ كبيرٍ يفخر به اليهود، ويبقي على اسمه في سجلات تاريخهم كواحدٍ من أعظم قادتهم، ولكن لا ينبغي علينا أن نعتمد فقط على تناقضات العدو ونتخلى عن عوامل القوة لدينا، ووسائل التحدي فينا، بل يجب علينا أن نبحث عن نقاط القوة فينا ومرتكزات الصمود والثبات عندنا، وهي الوحدة الجامعة، والرؤية الوطنية الشاملة، والبرنامج المشترك، واستمرار نهج المقاومة ومسار النضال بكل أشكاله، حينها سنسقط مشاريعهم، وسننهي احتلالهم، وسنحقق كل الأهداف التي آمنا بها وضحينا من أجلها.